بينما كان هو وزوجته يمشيان على تؤدة في أحد الشوارع، ويستنشقان بعمق نسيم المساء الرقيق، الذي طفق يداعب برفق وحنوّ أطراف أثوابهما، فتتمايل معه معلنة عن فرحة وارتياح ونشوة وانشراح، إذْ بفتى مترعٍ فضولًا وسماجة يقترب من المرأة ويتحرش بها في صفاقة وسوء أدب؛ لم يتمالك الرجل أعصابه ولم يستطع أن يسيطر على طاقة الغضب التي تفجرت بداخله، وعلى الفور انهال على الفتى ضربًا وركلًا وسبًا وتوبيخًا، ووسط الضجيج ترددت وتكررت صيحة عابرة لكنّها معبرة، كانت عابرة لاعتياد الناس سماعها، ومعبرة لدلالاتها التي تتعلق بالواقع الجديد البليد، كان الرجل يصيح مع كل ركلة وكل سبّة وشتمة: «حريمي شرفي، وشرفي مقدس عندي»، هذه بالتأكيد قصة مكرورة في حياة الناس، تبعث من مرقد الغفلة سؤالاً مندهشاً: إذا كان المقدس الشخصيّ يثير كل هذا؛ فكيف بالمقدسات العامّة؟!
أسئلة مقبولة وقضايا معقولة
هب أنّ إنسانًا جاء على تمثال الحرية في أمريكا وخلع حذاءه وقذف به في وجه التمثال، أو بصق عليه، أو ألقى عليه مخلفات طعام كان يأكله؛ فماذا يكون ردّ فعل المارّة العاديين والمسؤولين العموميين؟ أليس من الطبيعيّ جدًا ومن التلقائي إلى أقصى مدى أن ترى الناس يثورون عليه ويوسعونه سبًّا وضربًا وتوبيخًا؟ وأن ترى المسؤولين يقفون له ويوقفونه عند حدّه أو يقتادونه إلى حيث يلقى جزاءه بالقانون؟ وقل مثل ذلك واطرح مثل هذه التساؤلات وافترض مثل هذه الافتراضات عن كل مقدس لدى ناس من خلق الله أيًّا كان مكانهم أو زمانهم أو ثقافتهم؛ فلماذا، إذن، هذه الحالة من التغابي؟!
ليست حرية تلك التي يتذرعون بها للنيل من مقدسات المسلمين، بحرق المصحف تارة، وبرسوم مسيئة للنبيّ صلى الله عليه وسلم تارة، وبالتهكم على الحجاب تارة وتارة، إن هي إلا عنصريّة وعدوانية تلبس ثوب الحريّة الزائف، إن هي إلا الصفاقة وسوء الخلق واختلال الأدب، وما دخل الحرية بهذه الإهانات؟ إنّ الذي قال: «حريتك تنتهي عندما تبدأ حقوق الآخرين» ذكر بعض الحقيقة لا كلَّها، ومع ذلك فعلى أساس هذه القاعدة يُمنع ويُحظر العدوان على المقدسات العامَّة لدى أيّ جماعة من الناس لهم كينونة جماعية، لأنّ صون مقدساتهم حقٌّ من حقوقهم، والاعتداء عليها إهدار لهذا الحق وعدوان عليه، أمّا الحقيقة الكاملة التي نؤمن بها ونسلم لها وإن لم يؤمنوا هم ويسلموا فهي أنّ «حريتك تنتهي عندما تقول الشريعة كلمتها وتوقف الخلق عند حدّ تحدّه فلا يجوز لأحد أن يتخطّاه».
ولقد وضع القرآن الكريم للمسلمين قاعدة من قواعد الصيانة والاحتراز وسدّ الذرائع؛ ففي سورة «الأنعام» قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108)، فالنهي عن سبّ الأصنام والأوثان التي يتوجه إليها المشركون بالدعاء ليس تقديسًا لها ولا احترامًا أو تقديرًا لحقٍّ مدعىً لها، وإنّما الغرضُ منه سدُّ الذريعة أمام السفهاء الذين لا يكترثون بمقدساتنا، فربما تعلل هؤلاء بواقعة سبٍّ ولو عابرة لينطلق في سبّ الله وكتابه ودينه وشرعه؛ لذلك منع الله تعالى من سبّ آلهتهم التي تناولها القرآن الكريم بالنقد والإبطال بالدليل والمناقشة البرهانية، مثل: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) (الأعراف: 195)، لكنّ التفنيد والنقد شيء والسب والإهانة شيء آخر، الأول مشروع والثاني ممنوع.
وقائع مُنذِرة وأحداث مُخبِرة
بينما كانت امرأة من المسلمين تساوم صائغًا يهوديًّا في السوق، وبينما هي منخرطة في عملية المساومة، ذاهلة غافلة لا يخطر ببالها أنّ في الكون خبثاء ماكرون، إذ تسلل أحد اليهود إلى طرف ثوبها وهي جالسة؛ ليرفعه ويعلقه في أعلاه بشوكة ليس في السوق أفسق منها إلا قلبه الممتلئ خيالا مريضًا، وما إن قامت المرأة حتى بدت سوأتها، فقعدت وولولت؛ فقامت رحى حرب في السوق تلاها حصار تلاه إجلاء لبني قينقاع، تلاه قرآن: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران: 12).
وما أكثر الحروب التي دارت -ولا تزال تدور- حول القدس وبيت المقدس، شاهدةً بأنّ المقدسات لها عند أصحابها -بل وعند مَنْ يدعون الانتماء إليها بحق أو بباطل- مكانةٌ كبيرة، ولها إلى جانب ذلك حميَّة في النفوس لا يمكن يصمد أمامها دعاوى الحريات العامّة، والحريات الشخصية، ومقتضيات الديمقراطية، وغير ذلك مما تُبَرَّر به الاعتداءات على المقدسات، فالصراع القائم الآن بين الأمة الإسلامية من جانب وبين الصهاينة من اليهود والبروتستانت من جانب آخر صراع ليس له في مذهب الديمقراطية ما يبرره، ومع ذلك لم ولن يتوقف؛ لأنّ صراع المقدسات لا تَفُلُّه دعاوى حداثية لا تكترث بمقدس ولا تلتفت لموروث، ولا يجدي معه شيء مما يبرر به هؤلاء الحمقى العدوان على المقدسات وإهانتها؛ فلابد إِذَنْ من العودة بفكر الحرية إلى أصله القديم الصحيح قبل ديفيد هيوم وجون ستيوارت ملْ وجون لوك، بل وقبل توماس هوبز وجيله، حيث لم تكن الثورات تنشد حريّة بهذا المعنى السخيف الذي اختلقته المذاهب الفلسفية في طريق الثورة المضادة ليغفل الناس عن المعنى الحقيقي للحرية.
الخطاب الأشد ظلمه والخوف القادم
لقد أثار انتباهنا واحترامنا موقف الشاب المسلم الذي أخذ ترخيصًا للتظاهر من أجل حرق نسخة مما يسمى بالكتاب المقدس، فلمَّا حانت لحظة التنفيذ، وأمام وسائل الإعلام أعلن الشاب تراجعه، وأعلن أنّه لم يكن ينوي ذلك أصلًا، وإنّما قصد فقط إرسال رسالة للآخر أنّنا نحترم مشاعركم فعليكم أن تحترموا مشاعرنا، إنّها رسالة تؤسس للسلم الدوليّ العام، أمّا الخطاب المظلم الذي عبر عنه بانزعاج شديد ريتشاد كوك وزميله في كتابهما «انتحار الغرب» بأنّه الخطاب الأشد ظلمة، ذلك الذي يريد بعث الحرب الصليبية من جديد، ذلك الخطاب الذي تعالى مع صعود اليمين المحافظ ثم اليمين المتطرف، ولقد حذر الكاتبان من أن هذا السلوك كفيل بأن يدمر أوروبا من داخلها، لأنّ العنصرية لا حدود لها ولا قرار، فإذا كانت اليوم متوجهة إلى المسلمين؛ فإنّها عمّا قريب ستقع بين مذاهب الملة المسيحية؛ لأنّ التاريخ يشهد بأن العداوة إذا تفجرت بين المذاهب المنتمية لثقافة واحدة تكون أعنف وأشد، ونسأل الله السلامة.