قبل أن يرحل رمضان هذا العام أرغب في أن أبلغ رسالة لكل أهل رمضان، وأهل القرآن، وأهل القيام، وأهل الصدقات، وأهل أبواب الخير، إن كان رمضان ينتهي زماناً فإن الإيمان يبقى في حياتنا، فإن ذهبت ليالي رمضان فليلة الرباط باقية، وإن غادرنا خشوع رمضان فعين الحرا
قبل أن يرحل رمضان هذا العام أرغب في أن أبلغ رسالة لكل أهل رمضان، وأهل القرآن، وأهل القيام، وأهل الصدقات، وأهل أبواب الخير، إن كان رمضان ينتهي زماناً فإن الإيمان يبقى في حياتنا، فإن ذهبت ليالي رمضان فليلة الرباط باقية، وإن غادرنا خشوع رمضان فعين الحراسة قائمة، وإن ضعفنا عن صف الصلاة فإن صف اللقاء يقوينا، وأقصد بهذا أن روح رمضان مستمرة فينا نحو حياة إيمانية كريمة.
زكاة بلا نصرة
إن قراءتي لمعاني شهر رمضان الإيمانية والأخلاقية بما يتزامن مع ظروف المرحلة الحالية وأحوال المسلمين؛ أجد أن شهر رمضان مدد أخلاقي لمشاريع الأمة الإسلامية في الوقت الذي نهتم به أن نوزع الزكوات والصدقات على الفقراء والمساكين، وإذ نحن نستشعر ذلك واجباً وفرضاً؛ لا ننسى الفرض والواجب الأخوي والرحم الإسلامي في حديث النبي r عن أَبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهr: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ”، قَالَ الْعُلَمَاء: الْخَذْل تَرْك الإِعَانَة وَالنَّصْر, وَمَعْنَاهُ إِذَا اِسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْع ظَالِم وَنَحْوه لَزِمَهُ إِعَانَته إِذَا أَمْكَنَهُ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر شَرْعِيّ, ولا يسلمه لعدوه وظالمه ليقضي ويُجْهز عليه، يقصف بيته، ويقتل طفله، ويهدم مسجده، ويستغيث ولا مغيث، ينادي ولا مجيب، ويصرخ وبالآذان صمم، يطلب ولا متصدق، ويستنجد ولا معطٍ… أعطوا الزكاة ومنعوا نصرة المسلم، تصدقوا بالمال ومنعوا إعانة المسلم، أفتوا بمسائل الزكاة والمعاملات وامتنعوا عن إفتاء المضطهد والمنكوب والمحاصر بالدعم.. إن أرادت الأمة النصر لا بد لها أن تجمع بين زكاة مالها ونصرة ضعيفها، وبين صدقة صيامها وإعانة مظلومها، وبين إنفاق ملايينها وإغاثة منكوبها، وبين زكاة معادنها وذهبها وصيانة أبنائها المرابطين، فنحن في رمضان علينا أن نحسن صدقة النصرة والإعانة والإغاثة كما نحسن صدقة المال وزكاته.
صف وصف
ومن قراءتي لاجتهاد المسلمين في عبادتهم وحرصهم على أداء الصلاة جماعة صفوفاً، المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم، والكتف بالكتف، ويقول إمام الصلاة مذكراً: أَحْسِنُوا إِقَامَةَ الصُّفُوفِ، سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، تَرَاصُّوا، رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ، وَحَاذُوا بين الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ،لا تَخْتَلِفْ صُفُوفُكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، كما ورد في حديث عبداللَّه بن عمر- رضي الله عنهما – أَنَّ رسول اللَّهr قال: “أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ، وَحَاذُوا بين الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا في أيدي إِخْوَانِكُمْ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ الله”، وقولهr:” ثَلاثٌ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ: الرَّجُلُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلصَّلاةِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلْقِتَالِ”.
ونحن في رمضان اجتمعت الصفوف في الصلاة واللقاء والرباط وقيام الليل فأي الصفين ألزم؟! وأي الصفين أقوى؟! وأي الصفين أقرب؟! وأي الصفين أروع؟! وأفهم من الجمع بين الصفوف: صف الصلاة مدد لصف اللقاء، وأن صف الصلاة روح يسري في صف اللقاء، وأن صف الصلاة ثبات لصف اللقاء.. فيا أمة محمد rويا أئمة مساجدها ويا علماءها، يا من تذكّرون الناس بتسوية الصفوف ولا يجوز أن يخرج أحد عن صف الصلاة؛ فلماذا يجوز للحكام وبعض العلماء وبعض الأمراء وبعض الإعلاميين وبعض السياسيين الخروج عن صف الأمة والرباط واللقاء خدمة للباطل وأهله؟ ألم يقرؤوا قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ {4}) (الصف)؟ ألم يستوعبوا ما قاله قتادة: “أَلَمْ تَر إِلَى صَاحِب الْبُنْيَانِ كَيْف لا يُحِبُّ أَنْ يَخْتَلِف بُنْيَانُهُ، كَذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَخْتَلِفُ أَمْرُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ وَصَفِّهِمْ فِي صَلاتِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِه؟”؟!
فإذا كانت إقامة الصف من حُسن الصلاة، فإن نصرة صف اللقاء من حسن الولاء، وإعانة الصف من عمق الأخوة، وسد الخلل من ضعف الوحدة، المنكب بالمنكب, ولا تذروا فرجات للشيطان يقوض الإنجاز والانتصار، ولا تتركوا الشيطان يلعب بالصف فيبطل صلاة المرابطين والمنافحين، فلا شيطان “سيسي”، ولا شيطان دولار، ولا شيطان إغراء، ولا شيطان الضغط العربي، ولا تتركوا فرجة ولا فرصة للشياطين التي تمردت وخانت وغدرت بالقضية والحق الفلسطيني.
لَيْلَة ولَيْلَة
ومن قراءتي لتفاضل الأزمنة والأمكنة ومنها الليالي والأيام كليلة القدر عن غيرها:” مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ “، حيث يعود نفعها على صاحبها، بخلاف حراسة ليلة في يوم خوف.. وتأمل معي؛ عن ابْن عمر ، قال: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسٌ حَرَسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ أَلا يَؤُبَ إلَى أَهْلِه”، وهي ليلة خير من ألف شهر عبادة وقيام، فهناك ليلة أفضل منها وخير منها من سهر ليلة يحرس الناس ويحميهم، وهذا فعل متعدٍّ، نفعه إلى الآخرين وتأمَّل في موسى – عليه السلام – وقوله: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24}) (القصص)، وقول يوسف – عليه السلام -: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55}) (يوسف)، وهما يُقدِّمان خدمة لآخرين، وليلة اللقاء والحراسة والرباط على ساحل الشام وبوابة الأقصى وغزة هاشم وتقديم الأمن والأمان خيرٌ من ليلة القدر رغم أنها عظيمة، وافهم عني هذا القول: “ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكِف في هذا المسجد – مسجد المدينة – شهراً”، ومن أفضل الأعمال “إدخالُك السرور على مؤمن؛ أشبعتَ جوعتَه، أو كسوتَ عورتَه، أو قضيتَ له حاجة”، فليلة القدر مدد إيماني لليلة اللقاء، ليلة القدر دعاء ومناجاة في المحراب لليلة الحراسة في الساحة والميدان، وليلة القدر صلة ورحمة لليلة الحراسة أثراً وأمناً.
عَيْنٌ وعَيْنٌ
ومن قراءتي لمشهد التدبر والتأثر من آيات الله وهي تتلى على مسامع القلوب قبل الأذان، فينساب أثرها وتظهر علامتها بعين دامعة حانية خائفة وهي التي أخبر عنها النبي r: “عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”، وحق للعين أن تبكي خوفاً من الله، وتبكي حباً لله تعالى، وتبكي خوفاً من ذنوبها وتقصيرها، وتبكي خشية من الله تعالى في صلاتها ودعائها ومناجاتها ومحرابها وقيامها وفي خلوتها وعزلتها، وما أجمل هذه العين الخاشعة الدامعة الوجلة يزداد جمالها لبكائها على نفسها لا على دنيا تصيبها ولا لذة تفوتها ولا شهوة تقضيها، فهي عين كريمة وقريبة وأمينة وحبيبة للرحمن.. وقد شاهدنا مشهد الخاشعين البكّائين في صلواتهم، وسمعنا أصوات الأئمة وأنينهم في دعائهم.. فهل العيون الباكية تتحول إلى عيون حارسة؟ وهل العيون الخاشعة تنقلب لعيون ساهرة في سبيل الله؟ وهل العيون الدامعة ستبيت تحرس الإسلام وأهله من الكفر؟ “وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”، فاليوم نبتت في الأمة العين الثانية، عين باتت تحرس حرمة الإسلام والدين، وحرمة الأوطان والإيمان، وحرمة العباد والبلاد، وحرمة المساجد والساجد، وحرمة الشهداء والجرحى، فمن يرعاها من الخيانة الإقليمية! ومن يحفظها من العور السياسي! ومن يصونها من النفاق الدبلوماسي! ومن يحميها من الدساس والخناس “السيسي”! ومن يقف معها بالباع والذراع يرفع معنويتها ويدفع عنها الباطل دفعاً! والله لا يسامح التاريخ من يسعى لخرابها وتدميرها ونسف رؤيتها، فهي عين ستة على ستة ومن أحسن العيون وأجملها!
فهي تحيا بنفس مطمئنة واثقة قوية وثابتة لا يعتريها وهن ولا خور، ولا اضطراب ولا قلق، سكن قلبها بالإيمان واليقين، ودعاؤها كدعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنة إليك.
ويقول ابن القيم في “مدارج السالكين“: “والطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس.. والطمأنينة مأخوذة من الإقامة يقال: اطمأن بالمكان والمنزل: إذا أقام به وسبب صحة هذا الأمن المقوي للسكون: شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه.. ولا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض، وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب، وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة”.
تقبل الله منا ومنكم الطاعات
وكل عام وأنتم بخير