التقدم والنهضة وتبوؤ مكانة بين دول العالم قرار.. والتخلف والتردي والتبعية قرار!
إن ما يميز الدول المتقدمة عن الدول المتخلفة هو تحول عملية التعليم إلى التعلُم، وهو قرار وإرادة أمة قررت وأخذت بأسباب تقدمها ونهضتها في عالم أصبحت المعرفة فيه هي حلبة الصراع الحقيقي، والأمم التي لم تسعَ وتتخذ قرارها بالتقدم والنهضة؛ فقد اتخذت قرارها بالتخلف والتردي والتبعية.
إن بناء وتطوير منظومة المعرفة المتوائمة مع خصائص كل بلد هي طريق التقدم والرقي، ويتم ذلك من خلال تحول عملية التعليم إلى تعلم.
ولقد أثر ذلك التحول على عدة محاور:
1- المسؤولية:
لم تعد مسؤولية التعلم ملقاة فقط على جهات التعليم؛ سواء الحكومي أو الخاص، بل أصبحت مسؤولية عائلية ومجتمعية وإعلامية وجمعيات النفع العام حتى الشركات الهادفة إلى الربح.
2- الأهداف:
لم يعد الهدف تحصيل العلوم (الحقائق)، بل توليد الدوافع نحو تحصيل وتطوير وتوزيع المعرفة، وتنمية المهارات وإطلاق الطاقات الكامنة لدى كل أفراد المجتمع، ومن هنا أصبح مفهوم التعلم المستمر حقيقة يعيشها ليس فقط كل أفراد المجتمعات المتقدمة بل ومؤسساته:
– تحصيل المعرفة: يبدأ من تحصيل العلوم من مصادرها الطبيعية، ثم التدرب على استخلاص واستنتاج وصياغة النموذج العلمي المجرد، وبيان العلاقة مع منظومة العلوم.
مثال: زيارة حديقة للتعرف على ما بها من كائنات مادية / حيوية، تفصيل الصورة المشاهدة إلى تصنيفات كل متعلم كما يتراءى له وبمستوى العمق الذي يتناسب مع مستوى المعارف لديه، يتم تسجيل أنواع العلاقات بين المشاهدات بأدوات التحليل التي تتناسب وإدراكاته (تحليل سببي: ما سبب لأن مقابل كل زهرة حمراء يوجد 3 بيضاء، استنتاج قانون الوراثة (علوم الحياة)، دراسة المعدلات (النسب الرياضية)، وهكذا)، فتوليد المعرفة هي المرحلة الثالثة المبنية على تحصيل العلوم وتنمية الرصيد العلمي، ثم استنتاج المعلومة من خلال تحليل العلاقات ليس فقط بين ما حُصل من العلوم، ولكن بين كل الرصيد العلمي، ثم توليد المعرفة بين محاور المعلومات المختلفة.
قراءة القرآن: تحصيل حقائق لأنه قطعي الثبوت، قراءة التفسير والتفكر والتدبر معلومة لأنه ظني الدلالة (باستثناء تفسير القرآن بالقرآن أو بحديث صحيح)، على محور العلوم المادية تسجيل حالات البرق والرعد تحصيل حقائق طبيعية، تحليلها العلمي معلومة، التفسير العلمي للقرآن الكريم معرفة؛ لأنه ربط بين المعلومة الطبيعية والمعلومة الدينية أو اللغوية؛ فقيمة المعرفة أنها مقابل بين معلومات بين محورين على الأقل من محاور الكون.
– تطوير المعرفة: في كل المراحل السابقة لم يبتكر العقل شيئاً بعد، فقط اقتصر عمله على تجميع وتحليل ومطابقة بين ما حصله من حقائق أو ما استنتجه من معلومات ومعارف، تطوير المعرفة يقتضي بعد تنمية التراكم المعرفي ابتكار ما لم يتم التوصل إليه أو ما يعرف بتوليد المعرفة.
– توزيع: إن بناء منظومة المعرفة على مستوى الدولة أو المنظمة يقتضي إنشاء ما يعرف بشبكة المعرفة (قنوات تنساب خلالها المعرفة، مراكز تخزين المعرفة)، بحيث تكون الدولة أو المنظمة معرفية.
يجب التركيز على مفهوم المعرفة بأنها منظومة شاملة لكل مناحي الحياة المادية والمعنوية، وهي أيضاً متكاملة؛ حيث تتكامل عناصرها لتصوغ وعياً وإدراكاً معرفياً لدى الدولة أفراداً وتنظيماً، إن الدول التي تعاني من التردي المعرفي المادي ليس لها ذكرى في المجال المعرفي الإنساني.
إن الدول التي تقود عجلة المعرفة المادية تؤثر في النموذج الثقافي للدولة المهزومة معرفياً، إن منظومة المعرفة كينونة واحدة لها وجهان؛ وجه مادي تظهر آثاره في التقنيات الصناعية والزراعية، وكافة مظاهر الحياة المدنية بل والعسكرية، ووجه معنوي تظهر آثاره بنفس المعدل من التقدم في النموذج الثقافي الذي يحياه البلد من آداب وفنون ونماذج تعامل سواء على مستوى السياسة الخارجية أو على المستوى الداخلي بين الأفراد أو بين الأفراد والمؤسسات والمنظمات الحكومية والأهلية.
إن المعرفة لا تستورد، ولكنها ثمرة نتاج تراكم بين تفاعل العلم مع الاحتياجات والثقافة البيئية، لذا فإن البعد المحلي يكون جلياً ومؤثراً في صياغة نموذج المعرفة الخاص بكل بلد.
المعرفة لا يمكن استيرادها، بينما يمكن استيراد منتجاتها المعنوية منها والمادية، كما يمكن أيضاً استيراد أدوات المعرفة من تقنيات أو خبراء أو منهجيات تطوير العلوم؛ لأن المعرفة ليست مشروعاً طارئاً مستقلاً بذاته، بل هي ثمرة تراكم عمليات بناء وتطوير معرفي، حيث تؤدي الثقافة البيئية الدور المؤثر والحيوي في صياغة هيكل نموذج المعرفة الخاص بكل بلد.