توقفنا في المقال السابق عند كلمة “دون” التي كثيرًا ما ذكرت في كتاب الله تعالى، وغالبًا تذكر تصغيرًا بمن ينظر إلى العبد المخلوق نظرة تضاهي الخالق سواء في النداء، أو الدعاء أو التوكل عليه أو التزلف به -الشريك- إلى الله تعالى، وغالبًا ما تذكر كلمة “دون” قبل اسم الجلالة؛ مستثنية كل ما يخطر على بالنا من مخلوقات عظيمة وجليلة، إنها لا يمكن، ولم ولن تكون ندًا لله تعالى، وإن كانت من أقرب المقربين من الله تعالى فهي “دون الله” تعالى بلا استثناء لأحد، والكلمة والعبارة واضحة المقاصد تعبيرًا وبلاغة؛ سواء كان هذا المخلوق ملكاً مقرباً مثل جبريل عليه السلام، أو نبياً مرسلاً عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أو صالحاً من عبيد الله؛ كالصحابة وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرهم أو من العلماء الأفاضل، أو أي مخلوق، فهم جميعاً يندرجون تحت معنى قول الله تعالى: “دون الله”، كيف لا وهم العبيد المخلوقون لعبادة الخالق؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
لنتأمل بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف: 194)، ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3)، ويؤكد الله الأصل الصحيح مقابل من يلجأ إلى من هو “دون الله” يقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
لو دققنا في كلمة “دون” لوجدناها تحمل كل الخلائق حينما تسبق اسم الجلالة “دون الله”.
واعلم أيها القارئ الكريم أنه ليس المعني في هذه الآيات الصنم أو الوثن فقط كما يظن البعض ويتوهم، أو كما يدَّعِ ضعاف العقول، إنما المعنى كل ما هو دون الله تعالى من مخلوقات راقية كالملائكة المقربين والأنبياء والرسل كعيسى وعزير وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من عباد الله من الصالحين؛ الذين يتمسح بهم البعض كالصحابة وآل البيت والصالحين مثل التيجاني والبدوي والدسوقي، والملائكة والجن، وغيرهم من مخلوقات أقل شأنًا، ومصنوعات مثل الصليب، الصنم، الضريح، اللات والعزى، وكالكواكب، والنجوم، والشمس وكل من دُعي كما يُدعى الله تعالى، جميعهم “من دون الله”، ودعاؤهم شرك بالله لا شك؛ لأنهم دون الله تعالى، ولا يملكون من أمرهم شيئاً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “من دون الله” هي مثل قوله: (بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: 10)، كل ما هو غير الله هو المعني “بدون الله”، وكل ما سوى الله هو غير الله من مخلوقاته، وهم المعنيون بـ”العالمين”.
إن هذا التوحيد الذي تقر به اليهود والنصارى وكفار قريش هو توحيد الربوبية فقط، أو ما هو أعظم خللاً كالولد والإنجاب وما شابه، وقد بيَّنه القرآن كما ذكرنا، أما توحيد العبودية أو الألوهية والأسماء والصفات، فمضطرب عندهم، فكان سببًا مباشرًا ومحوريًا لكفرهم وبقائهم في ملة الكفر.
أيضًا، بيَّن الله تعالى في كتابه أنهم وبكل مستوياتهم الكفرية والشركية لا يختلفون عن بعض إلا بالتفاوت الكفري، أما الفكرة الشركية واحدة، أي أن هناك كافراً؛ ويوجد من هو أشد كفرًا منه، مثل العاصي من المسلمين، يوجد من هو أشد منه معصية، وذلك ظاهر في قوله تعالى حيث وحد الله فكرة الشرك، لا عين الشيء الذي تم من خلاله الشرك؛ قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30).
إذاً، هنا يتضح لنا أن الكفر المعني هو فكرة الدعوة أو الدعاء والعبادة لغير الله تعالى، فهي الشرك المعني؛ وليس عين الشيء الذي تم من خلاله الشرك! فمن ينادي بوذا كالذي ينادي اللات والعزى، وكالذي ينادي الدسوقي أو العدوي، وكالذي ينادي عزير أو المسيح أو العباس، وهذا خلل يضفي صفات الله تعالى على عباد خلقهم لعبادته، وهم من دونه جل وعلا لا شك ولا ريب، أو ادعاء صفات لله ينفيها الله سبحانه وتعالى عن نفسه وينزه نفسه عنها؛ كالزواج والولادة وما شابه ذلك، نسأل الله السلامة والعفو والعافية، والعقل زينة.
____________________
إعلامي كويتي.