وإذا تركنا التاريخ وما يحمله من مبشرات بالقوة الذاتية للإسلام والقوى المكنونة في كيان هذه الأمة، التي تبرز عند الشدائد، وعندما يوجد من يفرجها.. ونظرنا إلى واقع الأمة في هذا العصر، وجدنا مبشرات أخرى كثيرة، جعلت هذه الأمة تثبت في وجه الأعاصير، ولا تذوب في غيرها، كما يذوب الملح في الماء، كما كان يراد لها، بل جاهدت وقاتلت حتى تحررت من مستعمريها، وعادت تشعر بكينونتها تكتشف ذاتها من جديد، رغم ما وضع لها من أغلال تكبلها، وما صنع لها من أقفاص حديدية أو ذهبية تحبس داخلها.
ولا غرو أن هيأ الله لهذا الدين رجالاً يجددونه، ويوقظون أمته، ويصنعون أجيالاً على هداه، ولم تضع جهودهم سدى، ولم تذهب ثمرات البعث الإسلامي، وحركة الإحياء والتجديد، التي لم تكن –كما توهم بعض الناس– صيحة في واد، أو نفخة في رماد، بل أنشأت، بفضل الله تعالى وتوفيقه، صحوة إسلامية كبرى، في سائر ديار العرب والإسلام، بل حتى خارج ديار الإسلام، حيث الأقليات والجاليات الإسلامية في الغرب والشرق، صحوة أيقظت العقول بالوعي، والقلوب بالحماس، والعزائم بالعمل الدؤوب، وأعادت للناس الثقة بالإسلام، والأمل في انتصاره بعد أن ظن من ظن أن راية الإسلام قد سقطت، وأن ظله قد تقلص، وأن أمته أمست في مؤخرة القافلة، وأن العلمانية قد تغلغلت بين أبنائه، وزلزلت القوى المعادية للإسلام زلزالها، فطفقت تكيد للصحوة، وتتآمر عليها، وتتهمها بما تبرأ منه، وتدعو إلى ضده، مستغلة انحراف بعض فصائل الصحوة –للأسف– في الفهم أو في السلوك، لضرب الصحوة كلها، وقطع الطريق عليها؛ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30).
وإذا كان بعض الناس يحاول أن يهوّن من قوة التيار الإسلامي، ويقلل من شأن الصحوة الإسلامية، مهوّلاً من قوة التيار العلماني والمعادي للإسلام وشريعته ومنهجه لقيادة الحياة، فأعتقد أنهم مخطئون في تقديراتهم، أو هم يعلمون الحقيقة، ولكنهم يتجاهلونها عمداً، لهوى في أنفسهم.
إننا إذا تعمقنا في تقدير وزن القوى التي لنا والتي علينا، كانت كفة الإسلام ودعائه، بحمد الله، أرجح وأثقل في الميزان.
أ- فنحن بالإسلام نملك رصيداً ضخماً، لا يمكن أن تملكه دعوة أخرى وافدة من هنا وهناك، إن وراء الإسلام “قوة الجماهير” الغفيرة المؤمنة بربها وقرآنها ومحمدها، المتطلعة إلى من يقودها باسم الله، ويضع يدها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندئذ تبذل المال عن رضا واغتباط، والروح عن طواعية وارتياح، إن هذه الأمة متدينة بفطرتها، وبتاريخها، والدين هو مفتاح شخصيتها، وصيقل مواهبها، وصانع بطولاتها، وسر انتصاراتها الكبرى، وهي أسرع استجابة إليه، والتفافاً به، من أي دعوة دخيلة جاء بها غاصب محتل، أو بذر بذورها طامع متربص.
ب- ونملك كذلك “قوة المنهج” الذي ندعو إليه، قوة مبادئ الإسلام العظيمة الخالدة، نملك قوة الإسلام التي تتمثل في وضوحه وشموله وعمقه واتزانه وتأثيره، الإسلام عقيدة تخاطب العقل، وعبادة تزكي النفس، وأخلاقاً تلائم الفطرة، وأحكامها تحقق التوازن والعدل، تطارد المفاسد، وتجلب المصالح، وتعطي كل ذي حق حقه.
ومن أبرز معالم القوة في هذا الإسلام أنه ليس من وضع البشر، بل هو من تنزيل رب العالمين، وهذا العنصر الإلهي فيه جعله يبرأ الغلو والتقصير، ومن العجز والقصور، الذي يصاب به دائماً كل منهج يضعه البشر لأنفسهم.
وهذه الميزة أيضاً تجعله أدنى إلى القبول والإذعان له من جمهرة الناس، لأنه انقياد من الإنسان لربه، الذي خلقه فسواه، وأمده بنعمته، وغمره برحمته، والذي يرجو مثوبته، ويخشى عقابه، على عكس المبادئ يحاول أن يتهرب من سلطانها ما استطاع.
ومن أسباب قوة الإسلام أنه منهج نابع من أعماق الأمة، وليس دخيلاً ولا طارئاً عليها، بحيث تحتاج إلى ضغط مادي أو معنوي حتى تسيغه وترضى بتجرع كأسه.
جـ- إن هذه القوة المذخورة في منهج الإسلام، لا يعادلها إلا القوى المكنونة حنايا أمة الإسلام.
تلك القوى التي انفجرت يوماً والمسلمون في ضعف وتفرق وخذلان، فحطمت الصليبيين في “حطين”، وهزمت التتار في “عين جالوت”، وأسرت لويس التاسع في “دار ابن لقمان” بالمنصورة.
تحذيرات الأجانب من القوة المذخورة في الإسلام
إن الأجانب من المستشرقين والدارسين لطبيعة أمتنا، وخصائص ديننا، ومذخور الطاقات في شعوبنا، هم الذين يدركون حقيقة ما نملك من قوة ذاتية، يحسبون لها ألف حساب، بل يساورهم فزع من خشية انطلاقها يوماً من الأيام، يقول البروفيسور “جب” في كتابه “وجه الإسلام”: “إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بسرعة مذهلة تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعو إلى الاسترابة في أمرها، إن الحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة، لا ينقصها إلا صلاح الدين من جديد”.
وكتب الرحالة الألماني “بول أشميد” كتاباً خاصاً بهذه الموضوع سماه “الإسلام قوة الغد”، ظهر عام 1936م، ومما قال فيه: إن مقومات القوى في الشرق الإسلامي تنحصر في عوامل ثلاثة:
1- في قوة الإسلام (كدين) وفي الاعتقاد به، وفي مثله، وفي مؤاخاته بين مختلفي الجنس واللون والثقافة.
2- وفي وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامي الذي يمتد من المحيط الأطلسي على حدود مراكش غرباً إلى المحيط الهادئ على حدود إندونيسيا شرقاً، وتمثيل هذه المصادر العديدة لوحدة اقتصادية سليمة قوية ولاكتفاء ذاتي، لا يدع المسلمين في حاجة مطلقاً إلى أوروبا أو غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا.
3- وأخيراً، أشار إلى العامل الثالث وهو خصوبة النسل البشري لدى المسلمين؛ مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة.
ثم قال: “فإن اجتمعت هذه القوى الثلاث؛ فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة وتوحيد الله، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزايُد عددهم، كان الخطر الإسلامي خطراً منذراً بفناء أوروبا وبسيادة عالمية في منطقة في مركز العالم كله”.
ويقترح “بل أشميد” –بعد أن فصَّل هذه العوامل الثلاثة عن طريق الإحصاءات الرسمية، وعما يعرفه عن جوهر العقيدة الإسلامية، كما تبلورت في تاريخ المسلمين، وتاريخ ترابطهم وزحفهم لرد الاعتداء عليهم– أن يتضامن الغرب المسيحي شعوباً وحكومات ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر، ولكن في أسلوب نافذ حاسم.
وقال “روبرت بين”، في مقدمة كتابه الذي سماه “السيف المقدس”: “علينا أن ندرس العرب ونسبر أفكارهم؛ لأنهم حكموا العالم سابقاً، وربما عادوا إلى حكمه مرة أخرى، والشعلة التي أضاءها محمد لا تزال مشتعلة بقوة، وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الشعلة لا تُطفأ، ولهذا كتبت هذا الكتاب لكي يقف القراء على أصل العرب وسميته باسم ذي النصلين الذي ناله محمد في وقعة “بدر” تذكاراً لانتصاره، لأن السيف أصبح رمزاً لمطالبه الإمبريالية”.
وبغض النظر عما في هذا الكلام من تحامل، وما يغلي به من حقد، فهو يبين لنا مبلغ قوة المسلمين في نظر الأجانب عنهم، وهم اليوم يسمون الإسلام “الخطر الأخضر” بعد أن زال “الخطر الأحمر” بانهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد أن تقاربوا مع “الخطر الأصفر” المتمثل في الصين، والإسلام ليس خطراً إلا على الإلحاد والفساد والانحلال والاستعباد، واسمح لي أن أسوق لك مثلاً معاصراً على القوة الذاتية في هذا الإسلام، ذلك المثل هو تركيا التي أراد أتاتورك وحزبه أن يعروها من لباس الإسلام وأخلاقه وتقاليده وأحكامه ولغته وكل ما يمت إليه، حتى ألغى غطاء الرأس، وحتى الكتابة، فقد جعل غطاء الرأس إجبارياً هو القبعة، وجعل حروف الكتابة اللاتينية، ومنع الكلام بالدين ولو في الأذان، وأباح للمسلمة أن تتزوج اليهودي والنصراني، وسوَّى بين الذكر والأنثى في الميراث، وجعل القوانين كلها غربية لحماً ودماً وعظماً، حتى القوانين التي تسمى “الأحوال الشخصية”، وطوردت الثقافة الإسلامية والعربية، وحورب أهلها بل قوتلوا وقُتلوا، وظن الناس أن شمس الإسلام قد غربت من تركيا إلى الأبد، وأن ظِل الإسلام قد تقلص عنهم إلى غير رجعة، ومرت على ذلك عشرات السنين جاءت راكدة، كفيلة بأن تميت الإسلام في الصدور، وأن تدب عقارب اليأس إلى القلوب.
ولكنَّ الإسلام الكامن في صدور الشعب التركي لم يمت، يمكن أن تقول: إنه رقد أو نام، حتى واتته الفرصة فظهر وبرز قوة مؤثرة، ولم نزل نقرأ ونسمع عن امتداد قوة التدين هناك، وانكماش الإلحاد والإباحية، وخفض صوتهما يوماً بعد آخر، رغم ما لديهما من إمكانات مادية وأدبية، وما يلقى دعاتهما من مساعدات داخلية وخارجية، وظهرت المدارس القرآنية بالألوف، وعادت المساجد تُبنى، والكتب الإسلامية تُنشر، والتوجهات الإسلامية تظهر وتؤثر في الحياة.
ولقد أدت انتفاضة الدين في تركيا أخيراً إلى حصول حزب الرفاه الإسلامي على الأغلبية النسبية في البرلمان التركي، رغم العقبات التي توضع في طريقه.
وآية الآيات في هذا الدين وأثره في أمته، ما ذكرناه من قبل أنه أشد ما يكون قوة، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً، حين تنزل بساحته الأزمات، وتحدث به الأخطار، ويشتد على أهله الكرب وتضيق بهم المسالك، ويقل المساعد والنصير.
حينئذ يحقق هذا الإسلام معجزاته، فتنبعث الحياة من الجثمان الهامد، ويتدفق دم القوة في عروق الأمة، وينطلق جنود الحق انطلاق المارد من القمقم، فإذا النائم يصحو، والجبان يتشجع، والضعيف يقوى، والشارد يعود، والشتيت يتجمع، وإذا هذه القطرات المتتابعة المتلاحقة من هنا وهناك تكون سيلاً عارماً لا يقف في وجهه سد من السدود.
أما اعتراض البعض بالمحن الشداد التي تصب على رؤوس الدعاة إلى الإسلام، والضربات القاسية التي تنهال عليهم من هنا وهناك، فمن ذا الذي يأمل أن تقوم لهؤلاء المضطهدين المشردين المعذبين قائمة، أو يرتفع لهم علم، أو ينتصر في الناس نظام يدعون إليه، ورسالة يؤمنون بها، وهم في كل يوم بين المطرقة والسندان؟ فنقول لهؤلاء المعترضين أو المتوجسين: إن هذه المحن التي تذكرها ليست علامة ضعف أو موت لدعاة الإسلام، بل هي دليل حياة وحركة وقوة، فإن الميت الهامد لا يضرب، ولا يؤذي، إنما يضرب ويؤذي الحي المتحرك المقاوم.
إن الدعوة التي لا يُضطهد أصحابها، ولا يُؤذَى دعاتها دعوة تافهة أو ميتة، أو دعاتها –على الأقل– تافهون ميتون
ثم إن هذه المحن والاضطهادات برهان على حيوية المبدأ نفسه؛ مبدأ الإسلام، فهو يقدم كل حين شهداء في معركة، يروون شجرته بدمائهم، ويبنون صرح مجده بأشلائهم.
وهذه المحن أبلغ معلم، وأعظم مربٍّ، لأصحاب الدعوات، باعتبارهم أفراداً، تصفو أنفسهم بالشدة، وتتمحص قلوبهم بالمحنة، وقد جاء في الحديث: “مثل المؤمن يصيبه البلاء، كمثل الحديد تدخل النار، فيذهب خبثها، ويبقى طيبها”.
مبشرات من السُّنن الإلهية
وهناك مبشرات أخرى مستمدة من سنن الله في الخلق وفي الاجتماع الإنساني، وهي سنن وقوانين ثابتة تجري على الآخرين، كما جرت على الأولين، وتجري على المسلمين كما تجري على المشركين، لا تتخلف ولا تتبدل، كما قال سبحانه: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).
فإذا نظرنا إلى هذه السنن الإلهية وجدنا مجموعة منها في صفنا نحن المسلمين ودعاة الإسلام، من ذلك:
1- سُنة التداول:
سنة “التداول” أو “المداولة” للأيام بين الأمم والأقوام، وهي السُّنة التي قررتها الآية الكريمة من سورة “آل عمران”، وقد نزلت بعد غزوة “أُحد” التي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم، قال عز وجل: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).
ولهذا قيل: الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، وقيل: دوام الحال من المحال، فالأحوال تتبدل، والدنيا تتحول، والعالم يتغير، وكم من غني افتقر، ومن فقير اغتنى، وكم من عزيز ذل، وذليل عز، وكم من موسر أعسر، ومن معسر أيسر، وقد قال تعالى: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: 7).
ومن نظر في أحوال الأمم عبر التاريخ يجد شعلة الحضارة تنتقل من أمة إلى أمة، ومن يد إلى أخرى، ومن حسن حظنا أن “سنة التداول” أو “قانون المداولة بين الناس” يعمل معنا لا ضدنا، وكما قال الإمام حسن البنا: “إن الدور لنا لا علينا! فقد كانت قيادة العالم قديماً في يد الشرق، على أيدي الحضارات الفرعونية والآشورية والبابلية والكلدانية والفينيقية والهندية والصينية، ثم انتقلت إلى الغرب، على يد الحضارة اليونانية ذات الفلسفة الشهيرة، والرومانية ذات التشريع المعروف، ثم انتقلت هذه القيادة مرة أخرى إلى الشرق على يد الحضارة العربية الإسلامية، وهي حضارة متميزة جمعت بين العلم والإيمان، بين الرقي المادي والسمو الروحي، ثم غفا الشرق وغفل عن رسالته، فأخذ الغرب الزمام وكانت له القيادة مرة أخرى، ولكنه لم يرع أمانة القيادة، بل أفلس في ميدان الروح والأخلاق، وفرط في العدل، وأعلى القوة على الحق، والمادة على الروح، والجماد على الإنسان، وكال بمكيالين في التعامل مع القضايا البشرية، فكان من سُنة الله أن تنتقل الشعلة إلى غيره، والمفروض حسب استقراء التاريخ أن تعود على الشرق مرة أخرى، الشرق الذي يملك رسالة غير رسالة الغرب وهو الشرق الإسلامي، فعليه أن يتهيأ لذلك، ويعد له العدة، كما قال تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) الأعراف: 129)، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).
2- سُنة التغيير:
ومن السُّنن الإلهية التي نجدها في صف المسلمين ونعدها من المبشرات “سُنة التغيير” التي قررها القرآن الكريم في أكثر من آية، فالذين يتغيرون من الخير إلى الشر، ومن الاستقامة إلى الانحراف، ومن الصلاح إلى الفساد، ومن البصيرة إلى العمى، يغير الله بهم من حال النعمة إلى النقمة، ومن القوة إلى الضعف، ومن العز إلى الذل، ومن الرخاء إلى الشدة، وهذا ما ذكره القرآن في سورة “الأنفال” بعد أن ذكر مصير آل فرعون والذين من قبلهم، الذين كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم، وقال عز من قائل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {53} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ) (الأنفال).
وهذه السُّنة إذا طبقت على أهل الحضارة الغربية الذين مكَّن الله لهم الأرض، وسـخَّر لهم قواها، وآتاهم من كل الثمرات، وعلَّمهم ما لم يكونوا يعلمون، ووسَّع عليهم الأرزاق؛ فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم –كما ذكرنا في “سُنة التداول”– خانوا أمانة القيادة والمسؤولية، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وبعبارة وجيزة أنهم غيروا ما بأنفسهم إلى الشر والفساد، فهم أهل لأن يعمل الله فيهم سُنته فيغير ما بهم، ويسحب القيادة منهم، وينقلها إلى غيرهم.
وتتمة هذه السُّنة أن الذين تتغير أنفسهم، أو يتغير ما بأنفسهم من الشر إلى الخير، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الكسل إلى العمل، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، فهم أهل أن يغيّر الله حالهم أو يغير ما بهم من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاستضعاف إلى التمكين.
وهذا ما تشير إليه الآية الأخرى في سورة “الرعد” وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
وهذه السُّنة تمنحنا –نحن المسلمين– الأمل في التغيير وتحسين الأحوال، فقد رأينا الكثير من المسلمين في عصر الصحوة الإسلامية يتغيرون تغيراً جذرياً من الإعراض عن الإسلام إلى الإقبال عليه، من الجهل بأحكامه إلى الحرص على التفقه فيه، من التسيب والشرود عن تعاليمه إلى الالتزام بها، من انشغال الفرد بخاصة نفسه وعدم اهتمام بأمر أمته إلى حمل هموم الأمة، والمشاركة في قضاياها بإخلاص وإيجابية، من الجري وراء اللذات واتباع الشهوات إلى إحياء الدعوة وتبني الجهاد للدفاع عن الدين وحرماته، من التكشف والتعري عند النساء إلى الالتزام بالحجاب، من البُعد عن المساجد إلى عمارتها بالصلوات والدروس.
وكل هذه الأعمال والآثار تشعرنا أن الأمة قد تغيرت إلى حد كبير، ومقتضى عدل الله تعالى وسنته ألا يتخلى عنها، وأن يكافئها على هذا التغير النفسي والسلوكي العميق بأن يغيّر ما بها، ويحوِّلها إلى حال أفضل.