لسنا بحاجة لأن نوضح لقرائنا الكرام أسباب احتجابنا بالحدث الجلل الذي ألمَّ بالكويت وأهلها، فلم يكن حدثاً مسلياً، ولم تكن آثاره إقليمية، إن احتلال الكويت والعدوان على حرمات شعبها زلزل المجمع الدولي، وهزَّ كيان النظام العربي، وبات تأثيره يسري على مستقبل النظام العالمي، وكان الاحتجاب صورة من صور المعاناة التي عاشتها الحركة الإسلامية في ظل نظام الكفر البعثي العراقي، إذ إن كافة الأنشطة الخيرية والإسلامية آثرت التوقف اتقاء من حقد البعث الدفين ضد الإسلام الذي لا يعرف سوى التصفية لغة يتحاور بها مع الدعوة الإسلامية، ولقد غابت «المجتمع» عن ساحة الكلمة في وقت هي أحوج ما تكون حاضرة فيها، فلقد أقدم النظام الكافر في العراق على تسخير كثير من المفاهيم الإسلامية والشعارات العربية ليلبس بها على الجماهير المسلمة ويبرر بها جرائمه وانتهاكاته، كنا نتمنى لو كنا في الساحة نواجه تلك الأباطيل ونفند ادعاءاته الضالة، ولكن الوضع في الكويت كان خانقاً، فلقد حول النظام العراقي بلدنا الحبيب إلى معتقل كبير مملوء بالعساكر ورجال المخابرات يصعب الخروج منه ولا يطاق البقاء فيه، وكم مرة ومرة فكرنا بإصدار «المجتمع» من الخارج كما فعلت بعض الصحف الكويتية، ولقد ظلت هذه الفكرة تتداول بيننا محاولين تذليل العقبات، ولكن العقبة الوحيدة التي واجهناها هي استفزاز النظام الوحشي ضد الغالبية من أعضاء جمعية الإصلاح الاجتماعي وأنصارها، فلقد كان أسلوب هذا النظام هو الانتقام المباشر وإيجاع خصومه بالتنكيل فيمن ينتمي إليهم، ولقد آثارنا سلامة إخواننا في الكويت، واخترنا أن نقوم بالدور من خلال وسائل الإعلام التي وفرتها المملكة العربية السعودية لخدمة القضية الكويتية، ومن خلال الوفود الإسلامية والشعبية، ومن خلال الهيئة العالمية للتضامن مع الكويت، ويوم أن منَّ الله سبحانه وتعالى علينا بالنصر والتحرير وعودة الوطن لأصحابه كان العدو قد دمر الكثير لإيقاف سير الحياة، ولقد كان مما دمره هو مكاتب الجمعية ومجلتها، فلقد سرق ما سرق ثم أضرم النار في مركز المعلومات للمجلة، وخلَّف وراءه دماراً وزجاجات خمر ومنكراً في قاعات الجمعية كتحدٍّ من الفساد ضد الإصلاح.
ولم تكن العودة سهلة بعد الدمار وانشغال الجميع بترتيب حياتهم من جديد، ولكن الإصرار جعل هذا العدد يخرج للقارئ ليعلن عن عودة «المجتمع» إلى ساحة الكلمة وميدان الصحافة، ونحن إذ نعتذر للتأخر عن صدور هذا العدد نرجو من القارئ أن يقدر حجم عبء العودة، فالعودة هنا كانت كانتظار معافاة الجسد المثخن بالجراح، وها نحن نعود إليك عزيزي القارئ من محنة وابتلاء مر به شعب الكويت بأكمله وقد خرجنا بعدة دروس، أهمها:
أولاً: إن واجبنا اليوم ككويتيين أن نصطلح مع الله تعالى ونستقيم على هديه وشرعه الحنيف، فإذا كنا نظن في أنفسنا أننا قد اجتزنا المحنة بسلام، وأن اللجوء إلى الله والابتهال إليه كان سلاحنا الوحيد أثناء الاحتلال وهو الذي ساق لنا الآلة العسكرية الغربية لتؤدب ربيبها الذي صنعته على ما يفعله بنا، فإننا أحوج إلى هذا السلاح ونحن في مرحلة البناء والتعمير، وكما صدقنا الله وعده بنصر المظلوم على الظالم، فلا بد أن نصدق الله وعدنا بالاستقامة على نهجه وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقد أدرك المسؤولون في الدولة هذه الحقيقة، فقد صرح سمو أمير البلاد، حفظه الله، في خطابه -الذي أعلن فيه للشعب عن عودة الحياة النيابية- أنه لا فلاح ولا نجاح لنا إلا بالعودة إلى كتاب الله وتحكيمه في كافة شؤوننا وقضايانا، وإننا نؤكد أن سمو الأمير قد لامس رغبة شعبية صميمة تحتاج إلى أصحاب همم عالية لتنفيذها لا تأخذهم في الله لومة لائم.
ثانياً: إن أول عمل نبدأ فيه بالصلح مع الله سبحانه وتعالى وهو الجانب الاقتصادي الذي كان سبباً أساسياً لأطماع العدو، نحن نؤكد أن الصلح هنا يجب أن يكون بإلغاء الربا؛ (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) “البقرة:278-279″، إنه ليس من اللائق ولا المقبول أن نقابل الفضل العظيم الذي تفضل الله سبحانه به علينا من تحرير وعودة الأمن بالجحود والعصيان، وإننا نظن أن الأمر ليس بالغ الصعوبة، فلقد شهد العالم الإسلامي مؤخراً مجموعة تجارب لتحويل كافة المؤسسات التي تتعامل بالربا إلى مؤسسات لا ربوية، ومنها تجارب كويتية ناجحة.
إننا إذ نطالب بالبدء في هذا الجانب، إنما نؤكد خطورة هذه المعصية على نعمة الأمن والاستقرار التي يتفضل بها الله سبحانه علينا، وإن مزيداً من الأرباح المحرمة لا تساوي عند أهل الكويت اهتزازاً لأمنهم وزعزعة له، والله يذكرنا دائماً بقوله:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) “الأعراف:96-99”.
ثالثاً: إن جوهر القضية الكويتية هو الظلم الذي تعسف بها الباغي العراقي، وإن أبرز نقاط القوة في قضية الكويتيين إبان الاحتلال أنهم مظلمون، ولهذا كانت أدعيتهم تتسابق إلى السماء وتخترق الحجب وتجتاز السماوات السبع لتصل إلى عرش الرحمن، ولقد هز الرحمن أفئدة العالم لمأساتهم، وأبكى الشعوب لمصابهم حتى بات النصر واجباً وضرورة عند المجتمع الدولي، ولهذا فإن الدرس الأساسي الذي يجب علينا ككويتيين أن نتعلمه هو محاربة الظلم بكل أشكاله، وليكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض هو ميزاننا.
وهذا يدفعنا لئلا نعاقب الآخرين بجريرة غيرهم، ولا نعمم الحكم على الناس بسبب أخطاء أنظمة حاقدة، إننا نطالب أن يأخذ جزاءه كل من ثبت تعاونه مع العدو كائناً من كان، أما من لم يثبت عليه شيء فمن العدل أن نعامله بالإحسان.
إننا نقول ذلك ونحن نعلم أن هناك الكثير من الشرفاء من المقيمين قد خاطروا بحياتهم أثناء الاحتلال في التعاون مع المرابطين والصامدين ومجموعة المقاومة المسلحة، وأن هناك من المقهورين الذين لا حول ولا قوة آثروا البقاء في بيوتهم مثلما فعل كثير من الكويتيين، لهذا فإن لم يسع هؤلاء عدلنا فيسعهم صفحنا وتسامحنا تأسياً بالمصطفى | عندما قال لمن ناصبه العداء من أهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، إننا نذكر بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) “المائدة:8”.
وأخيراً، فإنني أود أن أؤكد أموراً أخرى لا أود أن أترك القلم قبل تسجيلها للقارئ، وهي:
– إن تحرير الكويت هو فضل من الله تعالى، ولكنْ لأشقائنا في الخليج العربي دور كبير في تحرير الكويت وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي ندين لها بالشكر والعرفان، فلقد تبارى الشعب السعودي في إظهار تعاطفه مع أشقائه الكويتيين في محنتهم، ولقد تجلّت معاني الأخوة في تسابقه لإسعاف الكويتيين، كما قامت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بتسخير كافة إمكاناتها للقضية الكويتية، بل كنا نشعر أنهم أكثر منا حماسة لقضيتنا، ولقد جعل خادم الحرمين بلاده ميداناً للحرب من أجل تحرير الكويت، كما سخر مقدرات بلاده للمعركة وحشد جنده وجيشه البواسل لهذا الغرض، وكان لعلماء المملكة حفظهم الله الدور البارز في إبراز شرعية الحق الكويتي وبطلان ادعاءات نظام الكفر بالعراق، وهذا كان دافعاً رفع من همم المقاتلين والجنود وقناعتهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها.
وكما كان للمملكة دور بارز، فإن لدولة الإمارات العربية المتحدة دورا آخر مهما تجلى في المناصرة باحتضان عدد كبير من الكويتيين الفارين من الجحيم العراقي، وكذلك البحرين وقطر وعُمان الذين كان لهم دور أيضاً مماثل ومشرف في المناصرة والوقوف مع القضية الكويتية وفي احتضان الكويتيين المتواجدين على أرضهم.
كما كان للدعم المصري والسوري وزن مهم في التحرير الذي تحقق والوقوف مع الكويت، ولهذا فإن واجبنا ونحن نطل على القارئ في أول صدور بعد التحرير أن نشكر كل من ساهم في تحرير بلدنا، ولن ننسى تلك المواقف الكريمة الطيبة.
إن المحنة التي ابتلانا الله بها أكدت لنا أهمية الإسلام لشعوبنا كمنقذ من التردي الذي وصلنا إليه، ولهذا فإننا ازددنا إصراراً على المضي بطريقنا، وامتلأنا قناعة بدعوتنا، ولهذا سوف تستمر «المجتمع» على خطها الأصيل في الدعوة لهذا الدين والتصدي لمحاولات النيل منه والتآمر عليه، كما ستظل «المجتمع» مجلة المسلمين جميعاً بين قراء العربية في كل مكان.
إن جمعية الإصلاح الاجتماعي ومجلتها «المجتمع» لا تستغني أبداً عن نصح المسلمين وملاحظاتهم، وهي قوية بهم تستنير بحبهم وتعاطفهم، فلذا نحن كلنا قلوب مفتوحة لهم.
ونسأل الله تعالى أن يلهمنا السداد والرشاد، والله الموفق.
[1] العدد (977)، عام 1991م، ص34.