الشيخ الغزالي هو الفقيه الداعية المجدِّد محمد الغزالي السقا (1335 – 1416هـ/ 1917 – 1996م)، ولد في قرية «نكلا العنب» بمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة بدلتا مصر، في يوم السبت 5 من ذي الحجة 1335هـ/ 22 سبتمبر 1917م، ولقد أسماه والده «محمد الغزالي» تيمناً بحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكان أكبر إخوته السبعة.
ولقد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، والتحق بمعهد الإسكندرية الديني -التابع للأزهر الشريف- ليحصل على الابتدائية سنة 1932م، وعلى الثانوية سنة 1937م، وليلتحق بكلية أصول الدين بالقاهرة في نفس العام، فيحصل على «العالمية» سنة 1941م، وعلى «إجازة الدعوة والإرشاد» سنة 1943م.
ومارس الشيخ الغزالي الدعوة الإسلامية أثناء طلبه العلم بكلية أصول الدين، فعمل إماماً وخطيباً بأحد مساجد القاهرة، فلما تخرج عُيِّن إماماً وخطيباً بوزارة الأوقاف عام 1942م بمسجد «العتبة الخضراء» بوسط القاهرة، وتدرج في مناصب الدعوة، فتولى التفتيش بالمساجد، والوعظ بالأزهر، ووكيلاً، فمديراً للمساجد، فمديراً للتدريب، فمديراً للدعوة والإرشاد، فوكيلاً للوزارة لشؤون الدعوة.
وتفتحت المواهب الأدبية والفكرية للشيخ الغزالي إبان طلبه للعلم، وكان ذلك في إطار جماعة الإخوان المسلمين، التي التقى بمرشدها العام الإمام الشهيد حسن البنا سنة 1937م، وفي هذه الجماعة أصبح الشيخ الغزالي أحد كبار كتَّابها، وفيها تحمَّل نصيبه من المحن والابتلاءات التي أصابتها، فأمضى قرابة العام بمعتقل «الطور» سنة 1949م، وأقل من عام في سجن «طرة» إبان التحقيقات مع الشهيد سيد قطب عام 1965م.
ومع استقلال الشيخ الغزالي عن جماعة الإخوان -كحركة- وتفرغه للدعوة والتأليف، فقد عاش ناقداً ومعارضاً لنظام ثورة يوليو 1952م، يتلقى الهجمات من كتَّابها، وتنتصر له جماهير المساجد التي يخطب فيها؛ حتى ضاقت الدولة بمعارضته، فمنعته من الخطابة بجامع «عمرو بن العاص»، وسحبوا اختصاصاته في وظائف الدعوة، حتى وجد نفسه جالساً على «حصير» دون مكتب في «سندرة» ملحقة بمسجد «صلاح الدين» بالقاهرة، فجلس على هذا «الحصير» يشتغل بالتأليف!
ولما أحس باقتراب الخطر منه -إبان التحقيقات في قضية الفنية العسكرية- سعى إلى الخروج من مصر سنة 1974م، ليدرِّس بالجامعات العربية، حتى عاد واستقر بمصر سنة 1988م، وإبان هذه السنوات الخمس عشرة (1974 – 1988م)، امتد عطاء الشيخ الغزالي إلى مختلف بقاع عالم الإسلام، حتى لقد أصبح واحداً من أبرز علماء الإسلام في القرن العشرين.
ولقد شرف بعضويته العديد من المجامع العلمية الإسلامية، مثل «مجمع البحوث الإسلامية» بالأزهر الشريف، «والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية» بالأردن، و«المجلس العلمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي»، و«الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية».. إلخ.
كما حصل على العديد من الأوسمة والجوائز، مثل:
1- وسام الأسير، وهو أعلى وسام بالجزائر، سنة 1988م.
2- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1989م.
3- جائزة الامتياز من باكستان سنة 1991م.
4- جائزة الدولة التقديرية من مصر سنة 1991م.
5- جائزة علي وعثمان حافظ المفكر العام سنة 1991م.
وذهب الشيخ الغزالي إلى الأمم المتحدة ممثلاً للأزهر الشريف، فخطب في عيدها الخمسين سنة 1996م، وأمضى مع مسلمي أمريكا ثلاثة أسابيع.
وبعد أسابيع من عودته من أمريكا سافر إلى المملكة العربية السعودية، للمشاركة في المهرجان الوطني للثقافة، حيث صعدت روحه إلى بارئها، وبيده القلم والورقة، يكتب نقاطاً يدافع بها عن الإسلام، في 9 مارس 1996م، فدفن بالبقيع في المدينة المنورة عاصمة النبوة الخاتمة، التي أمضى حياته داعية لها، وحارساً لتعاليمها، ومجاهداً في سبيل نصرة دينها([2]).
المعارك الفكرية:
ومع رقة الشيخ الغزالي وعاطفته الجياشة، وقلبه النوراني، فلقد كانت حياته سلسلة من المعارك الفكرية، التي كان فيها أسداً مرابطاً على ثغور الإسلام، يعرض حقائقه، ويصد عنه سهام الأعداء.
ففي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، كانت أولى معاركه الفكرية، التي قدم فيها مؤلفاته: «الإسلام والأوضاع الاقتصادية»، و«الإسلام والمناهج الاشتراكية» و”الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين»، و«الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر».
وفي مواجهة الجمود والتقليد والحرفية النصوصية، كانت معاركه الفكرية التي قدم فيها كتبه “دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين”، و”السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، و”قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة”.
وفي مواجهة الاستبداد السياسي، قدم الشيخ الغزالي “الإسلام والاستبداد السياسي”، و”حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”.
وفي مواجهة الهيمنة الغربية والتغريب والتنصير، قدم الشيخ الغزالي «من هنا نعلم»، و«حقيقة القومية العربية»، و«دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين»، و«الغزو الفكري يمتد في فراغنا»، و«مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه».
وفي مواجهة الذات الإسلامية، التي تشوهت بالتخلف الموروث والاستلاب التغريبي، قدم الشيخ الغزالي مشروعاً فكرياً لتجديد هذه الذات الإسلامية، فكانت كتبه «خُلق المسلم»، و«عقيدة المسلم»، و«التعصب والتسامح»، و«جدد حياتك»، و«في موكب الدعوة»، و«فقه السيرة»، و«ليس من الإسلام»، و«هذا ديننا»، و«من معالم الحق»، و«كيف نفهم الإسلام»، و«نظرات في القرآن»، و«كيف نتعامل مع القرآن»، و«نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم»، و«المحاور الخمسة للقرآن الكريم»، و«مع الله.. دراسات في الدعوة والدعاة»، و«معركة المصحف»، و«كفاح دين»، و«الإسلام والطاقة المعطلة»، و«الجانب العاطفي من الإسلام»، و«سر تأخر العرب والمسلمين»، و«قذائف الحق»، و«هموم داعية».
وهكذا كان الشيخ الغزالي؛ القلب التقي والعقل الذكي، والأسد المرابط على ثغور الإسلام، يعرض حقائقه، ويصد عنه سهام الأعداء الذين اجتمعوا عليه وتكالبوا على أمته كي لا تنهض من جديد، ومن كلماته المعبرة عن هذا المعنى:
«إن الإسلام قلب تقي وعقل ذكي، وإن تحديات الدعوة الإسلامية تجيء -قبل أي زحف خارجي- من داخل أرض الإسلام، على أن التحدي الأعظم للإسلام كله هو في يقظة كل القوى المعادية له، وتبييتها النية على اغتياله!
لقد صحت اليهودية، والنصرانية، والشيوعية، والوثنية، وتملكتها رغبة مجنونة للقضاء على هذا الدين، وانتهاز ما يسود بلاده من غفلة وفرقة لتوجيه الضربة الأخيرة!
وإن الوعظ هو أخف الوجبات التي يتطلبها الإسلام في عصرنا! فالجهد الأول المطلوب هو تحريك قافلة الإسلام، التي توقفت، في وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر! وسوف تتلاشى هذه التحديات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام، ويدخلون فيه أفواجاً، حكاماً وشعوباً»([3]).
وإذا كان الشيخ الغزالي قد قدم إبداعه الفكري؛ خطباً ومواعظ ودروساً في المساجد والجامعات، وكتباً ومقالات، وأحاديث في الإذاعات والتلفاز، وفتاوى تجيب عن التساؤلات، فإنه -فوق هذه الوسائل من فنون القول- قد طرق في سنوات عمره الأخيرة «فن المحاورات»، وذلك عندما نظم «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» سلسلة من المحاورات مع الشيخ، حاوره فيها عدد من تلاميذه، الذين اتخذوا مكانهم في الحياة الفكرية الإسلامية، والذين خبروا مشروعه الفكري، فاستطاعوا في محاوراتهم معه أن يستخرجوا من عقله الفذ إضافات لما سبق وسطره في الكتب والمقالات، لقد قام بمحاورة الشيخ في هذا المشروع الأساتذة: د. محمد إمام، د. محمد عمارة، د. عبدالمعطي بيومي، أ. فهمي هويدي، د. رفعت العوضي، أ. صافيناز كاظم، د. حسن الشافعي.
فكانت حصيلة هذه المحاورات، التي غطت مختلف ميادين الفكر الذي أبدع فيه الشيخ الغزالي، هذا الكتاب الذي تقترب صفحاته من أربعمائة صفحة، الذي مثل ويمثل إبداع الشيخ الغزالي في «فن المحاورات»، كما يمثل إضافات بالغة الأهمية للمشروع الفكري الذي حملته مؤلفات هذا الإمام العظيم.
وإذا كان مفيداً -بل ضرورياً- في التقديم بين يدي هذه «المحاورات» إلقاء بعض الأضواء على بعض معالمها، فإننا نقف عند الإشارات التي تلقي بعض الأضواء على ما نراه مهماً، وربما جديداً في هذه المحاورات.
ثمرة قرآنية:
لقد تكوّن الشيخ الغزالي -عقلاً ووجداناً- في مدرسة القرآن الكريم، حتى لا نبالغ إذا قلنا: إنه قد جاء ثمرة طيبة من ثمرات هذا القرآن الكريم، ولذلك فإن علاقته بهذا القرآن لم تقف فقط عند التلاوة والترتيل والحفظ والفهم والتفسير، وإنما كانت معايشة لهذا القرآن الكريم، حتى ليحكي هو عن هذه العلاقة الخاصة الروحية والحميمة والمتميزة، فيقول:
«كنت أحياناً أطوف حدود القرية، مخترقاً المزارع، وكنت أحياناً أقرأ القرآن بصوت عالٍ، وأنا أحفظه والحمد لله حفظاً حسناً، كأني ورثت هذا عن أبي، وأذكر يوماً ما حتى إنني حكيت هذا للأستاذ البنا وأنا أمشي في الحقل كنت أقرأ سورة «الإسراء»: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء: 44)؛ خُيِّل إليَّ أن كل شيء حولي يسجد، ولولا أني ألبس جُبتي لسجدت وجعلتها تتسخ بالطين من الأرض المزروعة»([4]).
الموقف من التراث:
ولقد كان التراث الإسلامي بحراً غاص فيه الشيخ الغزالي، وكان داعية إلى احتضان هذا التراث، وإلى استدعاء إجاباته عن علامات استفهام العصر وعن المستجدات المعاصرة، دون التخندق في تراث مذهب واحد دون سواه، وعن هذه الحقيقة قال:
«أنا -في الدعوة- أنتقل بين بيئات كثيرة، ومن مصلحتي أن أتعرف على وجهات النظر عند أئمتنا كلهم، لماذا أقف عند أبي حامد الغزالي وحده؟ عليَّ أن أستوعب الغزالي، وابن تيمية، وابن حزم، وابن الجوزي، وأبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل»([5]).
كذلك، كان الشيخ الغزالي داعية إلى النقد العلمي لهذا التراث الإسلامي، فهو إبداع أمة، لا يتمتع بالقداسة التي اختص بها الوحي القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، «لذلك ينبغي أن يكون هناك نقد علمي لهذا التراث، فلا مانع من أن أنقد تراث الأحناف، وتراث المالكية، وتراث الشافعية نقداً علمياً، وهذا النقد شيء، أما أن أشتم فهو شيء آخر، النقد هو البحث عن الحقيقة ولفت الأنظار إليها، مع إيماني بأن الخطأ والصواب مأجوران في تراثنا وعند ربنا»([6]).
العدد: 2012 – 8 رمضان 1433هـ – 21 يوليو 2012.
([2]) انظر: تفاصيل ذلك في كتابنا «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، عام 1430هـ/ 2009م.