إلى أي مدى أسهمت “إسرائيل” في إحباط الآمال الديمقراطية والتنموية للشعوب العربية؟
إلى أي مدى أسهمت “إسرائيل” في إحباط الآمال الديمقراطية والتنموية للشعوب العربية؟ وكيف تمكنت من أن تقف سداً منيعاً ضد هذه الآمال المشروعة؟
نقطة البداية هي أن الفشل في مواجهة الجيوش العربية لـ”إسرائيل” كان سبباً مباشراً في الانقلابات العسكرية في سورية ثم مصر، وساعدت مصر على الانقلابات الأخرى تحت مسمى الثورة في اليمن وليبيا والسودان والعراق، أما الجزائر، فثورتها ضد الاستعمار الفرنسي وإن كان انقلابها بقيادة “هواري بومدين” ضد “أحمد بن بلة”، حليف “عبدالناصر”، قد أثر على موقف مصر من الصراع الجزائري المغربي، والطريف أن هذه النظم التي شهدت هذه الانقلابات العسكرية تحت ستار الثورات لم تعرف الاستقرار حتى الآن، وهذا هو المناخ المثالي لاستمرار المشروع الصهيوني، رغم أنها بررت الحكم العسكري بديلاً عن الديمقراطية بأنه ضروري لمواجهة “إسرائيل”.
وبالطبع لم يتوانَ دهاقنة الفكر القومي عن إسباغ الثورة على كل هذه الانقلابات؛ لما لمدلول الثورة في الثقافة العربية من مهابة واحترام على عكس الانقلاب العسكري، ومادامت الجيوش قد انصرفت عن الطابع العسكري ووظيفتها في مواجهة “إسرائيل”، واهتمت بالسلطة ومغانمها، فلابد أن ترحب “إسرائيل” بهذا التحول، وتتولى واشنطن صقله ووضع الإطار العام له؛ وهو السلام والوئام وتجريد الجيوش العربية من عسكريتها واستئناسها، بل ودعمها في وظيفتها الجديدة وهي حراسة المستبد، وتوزيع الأسلاب، والتصدي للشعوب التي تئن من الفقر والاستبداد والظلم وإهدار الكرامة وضياع الحقوق الوطنية والقومية، ومادامت “إسرائيل” قد أمنت هذا الجانب في الجيوش العربية، ومادامت صيغة السلام مع النظم هي اتفاق على توزيع الأسلاب، فقد غدا رضا “إسرائيل” وليس الشعوب عن الحكام هو أساس الشرعية والاستقرار، ولذلك شعرت “إسرائيل” ببأس شديد من الثورات خاصة في مصر؛ لأنها تعني زوال المستبد حليف “إسرائيل”، وانطلاق الشعب في ثوب جديد، واستعادة الوعي بالموارد والضياع وعمق المؤامرة بين “إسرائيل” من ناحية، ودولة الفساد والاستبداد في حراسة الدولة الأمنية من ناحية أخرى.
يترتب على ذلك أن “إسرائيل” هي قلب الخطر؛ لأنها على خلفية أمريكية واسعة تمكنت من تحويل الحكام من مواجهتها إلى التحالف معها، وتحويلهم من هذه المواجهة إلى الانخراط في منظومة السلام الجديدة؛ ولذلك صارت “إسرائيل” أهم عقبة في سبيل الديمقراطية والتنمية، ويستحيل أن يصل حاكم إلى السلطة بإرادة شعبية حرة؛ لأن من مصلحة “إسرائيل” أن تظل هي وحدها النموذج الديمقراطي الوحيد الذي يجمع أبناءه جميعاً نحو برنامج الرخاء والحرية وإبادة هذا العرق العربي بآليات مبتكرة؛ وهي تمكن الجيوش من الحكم بدلاً من الحرب وتوزيع الغنائم، والتصدي لآمال الشعوب في الحرية والكرامة ومواجهة السرطان الصهيوني، والتحدي الآن هو إذا كانت “إسرائيل” عازمة على ازدهار واجتهاد وإبعاد زفرات الخطر الشعبي العربي عنها بتحويل جيوش العرب لحراسة الحكام الذين يتمسكون بصيغة اقتسام الأسلاب، فقد حرمت “إسرائيل” هذه الشعوب من حقها في المستقبل وفي حراسة جيوشها الوطنية لآمالها في الحرية والتنمية ووقف انتشار السرطان الصهيوني، هذا الخطاب لا يجوز أن يوجه للعامة الذين أسكرتهم الشعارات، وأدمنوا الكسل العقلي والالتصاق بالأمر الواقع واجترار الألم، ولكن هذا الخطاب موجه إلى النابهين من أبناء الأمة الذين عليهم أن يجيبوا بشجاعة عن الأسئلة الملحة الآتية:
السؤال الأول: هل هذه الشعوب من حقها أن تنعم بالحرية وتمكن الكفاءات ورفع مستوى الوعي والثقافة العامة والتمتع بثروات بلادها وبقدرات أبنائها؟ الإجابة حتماً بالإيجاب، والنتيجة أنه لا مفر من زوال العلاقة الآثمة بين “إسرائيل” وحكامها وجيوشهم التي تسند الحكام وتقتسم الغنائم، ولن يحقق ذلك سوى الديمقراطية والتنمية، فالديمقراطية تعني مساءلة الحاكم بممثلين مستنيرين يحركهم الصالح العام في وسط شعبي مستنير بعيداً عن الغوغائية.
والديمقراطية تعني اقتسام السلطة ومساءلة الحاكم عن قراراته في الداخل والخارج، وسيادة القانون، وضبط وظيفة القضاء ومحاربة الفساد.. هذه النتائج هي التي تفك تحالف الفساد والاستبداد مع “إسرائيل”، وتعيد ترتيب التحالفات الداخلية والخارجية، وهذا ما تستميت “إسرائيل” في مقاومته؛ بالتحالف مع الأطراف العربية، وأخطرها الجيوش التي تقتسم المنافع والمزايا مع السلطة، ولو كان على حساب فقر الشعب وبؤسه وتعطيل عقله وفقدانه كل فضائل وخصائص الانتماء إلى الإنسانية.
في التحليل الأخير، إذا كان المشروع الصهيوني سرطاناً يقضي على الأمة، فإن هذا المشروع قد فطن إلى أن الجيش هو الذي يغير النظم وهو الذي يحاربها، فعمدت إلى تمكينه من السلطة والمنافع وحراسة السلطان وهو الوجه الداخلي والطرف الآخر في المعادلة.
النتيجة الثانية؛ هي أن الشعوب لابد أن تفلت من الشحن الإعلامي، وأن تدرك أن آمالها في الحرية والكرامة والاستقرار تبدأ بفك الارتباط بين الحكم والجيش و”إسرائيل”، ومن ورائهم واشنطن الضامن لهذه الصيغة الجهنمية، فيعود الجيش إلى وظيفته، ويزدهر المجتمع المدني في مناخ صحي، ويسود القانون، وتعود الشرطة إلى دورها الطبيعي في خدمة القانون، حتى تستطيع الدول العربية أن تصنع سلامها في المنطقة بدون “إسرائيل” أو معها على أساس سليم، بدلاً من التخدير بتميمة أن “السلام خيار إستراتيجي”، والسلام هو المدخل إلى ديمقراطية وتنمية لن تحدث مادام السلام “إسرائيلياً”، وأدواته هي الحكام والفساد والاستبداد وسرطنة وظائف الجيوش والشرطة وتدمير الوعي وتعطيل العقل.
وأخيراً، من مصلحة “إسرائيل” ازدهار الأساطير الدينية؛ فهي أقل خطراً من هذه الوصفة التي تزيل الغمامة عن العيون والعقول.