ليست الدعوة إلى المساواة في الميراث دعوة مستحدثة ألجأت إليها التطورات الاجتماعية التي شهدها العالم العربي مؤخرا كما يظن البعض إنما هي دعوة قديمة تضرب بجذورها إلى عشرينات القرن الفائت، ويمكن القول أن هذه الفترة تحديدا قد شهدت تشكل خارطة الفكر العربي وتموضع تياراته الأيديولوجية، وفي السطور الآتية أستعرض السياق التاريخي الذي نشأت خلاله هذه الدعوة مستهدفة بيان جوهر هذه الدعوة، وردود الفعل الأولى عليها والقائلين بها والحجج التي استندوا إليها حتى يمكن رصد التطورات التي طرأت عليها في المراحل التالية.
بواكير الدعوة إلى المساواة
أول ما أمكنا العثور عليه من تاريخ هذه الدعوة يعود إلى عام 1928 م حين ألقى سلامة موسى -وهو مفكر قبطي – محاضرة له في جمعية الشبان المسيحيين بالقاهرة دعا فيها إلى المساواة في الإرث بدعوى أن عدم المساواة يعد تفضيلا للرجال على النساء، وأن اللامساواة من دواعي إحجام كثير من الشبان في الشرق عن الزواج ففي المساواة حث على الزواج، وأشار كذلك إلى أن قاسم أمين كان ينوي المطالبة بالمساواة إلا أنه توقف لعدم نضوج الرأي العام. وعقب محاضرته أرسل خطابا إلى هدى شعراوي رئيس الاتحاد النسائي يدعوها أن تطلب من وزارة الحقانية سن قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث.
أحدثت دعوة سلامة موسى أصداء واسعة في الصحف، ويمكن التوقف أمام مقالين أحدهما ينسب إلى الأديب مصطفى صادق الرافعي والآخر إلى السيدة هدى شعراوي
وقد كتب الرافعي مقاله تحت عنوان “المرأة والميراث” استهله بمقدمة تضمنت الإشارة إلى بعض الأفكار التي يعتنقها موسى ورأي الرافعي فيها، وعلى رأسها الدعوة إلى تقليد الغرب تقليدا مطلقا كما تضمنت الإشارة إلى أنه ليس بمسلم، وهو ما يعني أنه لا يفهم الدين الإسلامي حق الفهم وأنه “متطفل في اقتراحه” كما يعتقد الرافعي.
والانتقاد الرئيس الذي يوجهه الرافعي لأطروحة المساواة يتلخص في “أن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته، بل هو مرتب على نظام الزواج فيها، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معا، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها” وهو يوضح ذلك بأن للمرأة حقا في مال زوجها وليس للرجل هذا الحق في مال زوجه فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة، فتزيد وينقص، إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا [1].
أما هدى شعراوي فقد كتبت مقالا في جريدة “السياسة” ردت فيه على اقتراح موسى بمطالبتها بسن قانون يساوي بين النساء والرجال في الإرث قائلة إنه ليس من المسائل الداخلة ضمن أعمال الاتحاد النسائي، وأردفت أنها لا تستطيع أن تؤيده لسببين: الأول أن الحركة النسوية المصرية رغم تأثرها بالحركة الغربية إلا أنها “لا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر”[2] والثاني أنه ليس هناك تذمر من المرأة من عدم مساواتها الرجل في الميراث.
وبلغة يسيرة ومنطق واضح مستقيم اتجهت إلى تفكيك دعائم دعوة موسى فذكرت أن عدم المساواة في الميراث ليست من دواعي الإحجام عن الزواج؛ لأننا نشاهد في أوروبا انتشارا للعزوبية يفوق انتشارها في الشرق رغم التساوي في الإرث، وأضافت لو أننا سلمنا بنظرية سلامة موسى بالمساواة “فهل لا يخشى أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحو زوجته وأولاده بإلزام الزوجة بالاشتراك في الصرف؟ وفي ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثا من ذويهن”[3]. وأتت كذلك على الادعاء الخاص بكون قاسم أمين كان ينوي المطالبة بالمساواة في الإرث واصفة إياه بأنه من قبيل “الرجم بالغيب”.
واختتمت مقالها بالقول أن ما يشغلها هو الوصول بالمرأة إلى المركز اللائق بها “وليس هو السعي لتغيير القوانين أو قلب الشريعة، فلله الحمد لم نجد في هذه ولا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوى، بل كل ما نسعى إليه هو حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه” فإن كان هناك موجب لاستياء المرأة فليس من رجحان نصيب الرجل وإنما مما يلجأ إليه بعض الوالدين بحرمان المرأة من ميراثها بطريق الوقف ” وإذا شكونا منها لا نكون متظلمين من الشريعة نفسها بل من الخروج على أحكامها بهذه الحيل باسم الدين والدين منها بريء”[4].
الحجج والحجج المضادة
لم تكد الأزمة التي أثارها موسى تخمد حتى أعقبتها أخرى أكثر اتساعا بعد أقل من عامين، فقد كتب محمود عزمي وهو من أصدقاء موسى مقالا بالأهرام في يناير 1930 جدد فيه الدعوة إلى المساواة في الإرث وفي ذات الوقت تقريبا ألقى فخري ميخائيل فرج محاضرة بالجامعة الأمريكية عن “الواجب المالي للأمومة” تضمنت ضرورة المساواة، وطبعت بعد ذلك ويبدو أنها تضمنت ما يمس بالدين فاستدعي للتحقيق القضائي وطلب الأمير عمر طوسون من السلطات الرسمية وقف هذه الدعايات، وعلى أثر ذلك عقدت الجامعة المصرية مناظرة بين المؤيدين للمساواة الذين مثلهم محمود عزمي وفتاة جامعية والمعارضين ومن بينهم الشيخ رشيد رضا[5]، وقد كتب الأخير في المنار سلسلة من المقالات حول هذا الموضوع، ومنها نستخلص أن حجج الداعين إلى المساواة كانت كالتالي:
أولا: أن المسلمين قبلوا بترك الحكم بالشريعة في معظم المجالات ورضوا بحكم المحاكم الأهلية (الوضعية) فلماذا لا يرضون بترك أحكام الإسلام المتعلقة بالأحوال الشخصية والمواريث.
ثانيا: الزعم بأن بعض علماء المسلمين جوز ترك جميع أحكام الشريعة الدنيوية إلى ما يعتقدونه خيرا منها بحجة اختلاف المصلحة باختلاف الزمان.
ثالثا: أن نظام الوقف وضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث من جمود يقتضي الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يوقفون أموالهم على من يريدون إعطائهم أموالهم فوق ما تعطيهم آيات الميراث[6].
رابعا: أن مقتضى الإنسانية التسوية بين الأخ والأخت في ميراث الأبوين.
وقد فند رشيد تلك الدعاوى ومما قاله في ذلك إن “أمر الدين ليس كأمر القوانين في جواز وضع نصوصه موضع البحث والنظر لنترك ما لا نستحسنه منها ونبقي ما نستحسنه، بل مقتضى الدين …. قبول كل ما هو قطعي منه” سواء أدركنا وجه منفعته أم لا. وأضاف أن الأحكام الشرعية ليست اختيارية فهذا ما لم يقل به عالم من علماء المسلمين المتقدمين ولا المتأخرين وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع والقول به يعد كفرا صريحا، إذ لا فرق عند العلماء بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات في أدلة ثبوتها ووجوب العمل بها[7]. واختتم قوله بأن الإنسانية ليست مناطا للإرث ولا سببا لتحديد درجات الوارثين فذكرها ليس إلا لغو، ولكن مقتضى الإنسانية أن يسوي الوالدين في النفقة بين أبنائهم ذكورا وإناثا فيما تتساوى حاجتهم فيه كالملبس والمطعم وخلافه.
في المحصلة يمكن القول أن هناك متغيرين وثابتا واحدا في مسألة المساواة في الإرث؛ فأما المتغيران فهما أن الدعوة بدأت فردية ثم اتخذت طابعا مؤسسيا في فترات لاحقة حين تبنتها بعض التجمعات النسوية منذ الأربعينات، وأن غالبية دعاتها الأوائل كانوا أقباطا ولكن هذا لم يلبث طويلا إذ ما لبثت أن صادفت الدعوة قبولا من المسلمين، أما الثابت فهو الادعاء أن المصلحة تستدعي بالضرورة تغيير الأحكام الشرعية الثابتة.
——
[1] مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، بيروت: المكتبة العصرية، ج3، ص 374-375.
[2] هدى شعراوي، مذكرات هدى شعراوي، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013، ص 300.
[3] نفس المرجع السابق، ص301.
[4] نفسه، ص302.
[5] رشيد رضا، القاهرة: المنار، ج 30 ع 9، مايو 1930، ص 699-703.
[6] رشيد رضا، القاهرة: المنار، ج 31 ع 1 يناير 1931، ص 59.
[7] رشيد رضا، القاهرة: المنار، ج 30 ع 9، ص 704-705.
—-
* المصدر: إسلام أون لاين.