– البعض فهم تصريحات “ترمب” بأنها ضوء أخضر لمصر بتوجيه ضربه للسد تجبر إثيوبيا على التفاوض
– مستشار “الأهرام للدراسات” يستبعد إدراج السد ضمن أولويات إدارة “بايدن” في الشهور الأولى من ولايته
– خبير مصري: من المتوقع أن تتصرف إدارة “بايدن” بحكمة دبلوماسية لتعميق علاقاتها بمصر في حل القضية
– موقف إدارة “بايدن” سيكون مرتبطاً بقدرات كل من مصر وإثيوبيا على تقديم نفسها كحليف إقليمي
في يوليو 2021م المقبل، سيكون على إثيوبيا أن تبادر بالملء الثاني لـ”سد النهضة”، ليبدأ في توليد الكهرباء، وسيترتب على ذلك حجز قرابة 12 مليار متر مكعب من المياه، بعدما حجزت قرابة 6 مليارات متر مكعب في الحجز الأول (أغسطس 2020م)؛ ما يعني حرمان مصر من حوالي ربع المياه التي تصلها عبر النيل (حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب).
لقد جرى الملء الأول لـ”سد النهضة” الإثيوبي، في أغسطس الماضي، بدون اتفاق مع دولتي المصب (السودان ومصر)؛ ما أغضب القاهرة، ولكنها لم تعبر عن هذا الغضب، رغم حديث صحف مصر قبلها عن أن الملء “خط أحمر”، وقالت إثيوبيا: إن ملء السد تم بشكل غير مقصود بسبب غزارة الأمطار وسقوطها داخل منطقة السد، ولكن الملء الثاني سيكون أصعب؛ لأنه يقتطع ربع نصيب مصر من مياه النيل، لهذا لا يتوقع أن تمرره مصر والسودان بهدوء، كما جرى في الملء الأول.
المعضلة المصرية هي أنه في أعقاب الانتهاء من بناء “سد النهضة” العملاق على النيل الأزرق، الذي سيكتمل بناؤه عام 2021م؛ ستصبح لإثيوبيا اليد العليا في قرار تدفق المياه؛ ما يعني حريتها في حجز ما تراه من مياه النيل، وفي ظل عدم وجود اتفاق على آلية تخرين المياه بالسد الذي يحتاج إلى 74 مليار متر مكعب، سيكون على إثيوبيا أن تمضي على جسد مصر، التي لا يتوقع أن تسمح بالملء الثاني سلمياً دون اتفاق.
فتحديد كميات المياه المحتجزة سنوياً، وسنوات ملء السد، والموقف في فترات الجفاف وشح الأمطار على الهضبة الإثيوبية، أمور تشكل مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، وحال رفض إثيوبيا كل المبادرات التي طرحتها مصر والسودان (دولتا المصب)، سيتعاظم التوتر في المنطقة، باعتبار أن النيل هو شريان حياة مصر.
وبرغم أن السلطات المصرية استبعدت في أكثر من مناسبة فكرة “الحل العسكري” للأزمة، ودعا الإعلام المصري لعدم الحديث عن هذا الخيار، فإن خبراء سياسيين ومتخصصين في ملف المياه يرون أن القاهرة لن يكون أمامها إذا أصرت إثيوبيا على موقفها سوى الحل العسكري، بعدما انهارت الحلول السلمية في المفاوضات المتعاقبة.
حل “ترمب” للأزمة
الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “دونالد ترمب”، كان قد قدم حلاً عسكرياً لمصر حين تحدث عن ضرورة نسف مصر للسد في نهاية المطاف، وقال: “سينتهي الأمر بالمصريين إلى تفجير السد، قُلتها وأقولها بصوت عال وواضح: سيُفجّرون هذا السدّ، وعليهم أن يفعلوا شيئاً”، ما سبَّب ارتباكاً شديداً في مصر وانتقادات في إثيوبيا، وتصور كثير من المصريين والإثيوبيين أنه ضوء أمريكي أخضر لضرب السد.
وقد جرى فهم هذا الحديث الأمريكي من أعلى سلطة في الإدارة على ثلاثة أوجه:
الأول: أنه ربما يكون ضوءاً أخضر من “ترمب” لمصر بتوجيه ضربه للسد تعرقل عمله وتجبر إثيوبيا على التفاوض وقبول شروط مصر واتفاق دولي لملء السد.
الثاني: احتمال أن تكون مصر أبلغت أمريكا سراً أنها ستضرب السد بالفعل في نهاية المطاف، وأن تصريح “ترمب” كشف نوايا مصر؛ ما يهدد بحرب فعلية بين مصر وإثيوبيا وانهيار المفاوضات الحالية كلياً، خصوصاً بعد خطوة إثيوبيا الأولى لملء السد رغم اعتبار مصر ذلك “خطاً أحمر”.
الثالث: أن تصريح “ترمب” ربما كان يستهدف إجهاض أي تحرك مصري، أو هو دعوة خادعة لمصر لنسف السد، تستهدف كشف خطط مصر أمام إثيوبيا علناً، خاصة أن العديد من السياسيين والإعلاميين المصريين اتهموا “ترمب” بأنه لم يُلقِ بكل ثقله في أزمة السد، ولم يجبر إثيوبيا على قبول اتفاق توصلت إليه إدارته.
مع انتهاء ولاية “ترمب” في يناير الجاري، كيف ستتعامل إدارة “بايدن” الجديدة مع سد النهضة؟
سواء كانت القاهرة تفكر في الحل العسكري أو عمل استخباري يعرقل السد أم لا، فقد أعطتها تصريحات “ترمب” ضوءاً أخضر مبكراً للتنفيذ، وفرصة لن تتكرر لتعطيل العمل في السد؛ لإجبار إثيوبيا على التفاوض بالقوة، لهذا كانت الأجواء في القاهرة تسير باتجاه تمني فوز “ترمب” في انتخابات الرئاسة الأمريكية باعتبار أن وجوده سيشكل ضغطاً على إثيوبيا، وبسبب مخاوف من موقف مضاد من جانب إدارة “بايدن” الجديدة فيما يخص الصراع مع إثيوبيا.
وهو ما يتوقعه وزير الخارجية المصري الأسبق وسفيرها في واشنطن السابق، نبيل فهمي، الذي قال في تصريحات صحفية: لا أرى أن “بايدن” سيتناول قضية السد بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، ويضيف: إنها ليست مسألة ذات أولوية بالنسبة لـ”بايدن”، مجادلاً بأنه سيكون منشغلاً بالقضايا السياسية المحلية.
ويتوقع هاني رسلان، مستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، نفس النتيجة (أي عدم إعطاء “بادين” أهمية لقضية السد في أوائل فترة حكمه) ويقول: لو كانت إدارة “ترمب” استمرت، كانت إثيوبيا ستجد نفسها في موقف صعب ومحرج، مُرجحاً أن يخفّف “بايدن” الضغط على إثيوبيا.
لذلك يستبعد رسلان إدراج “سد النهضة” ضمن أولويات إدارة “بايدن” في الشهور الأولى من ولايته، مُشيراً إلى أن ثمّة قضايا ذات أولوية يُتوقع أن تسبق أزمة السد على طاولته، مثل جائحة “كورونا”، ومعالجة الاستقطاب المجتمعي.
ويتوقع نفس الإهمال لقضية السد من جانب إدارة “بايدن”، د. أيمن شبانة، نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة، ويرجح سيناريوهين في هذا الصدد: إما أن تُهمل قضية السد لتبدو وكأنّها ليست مُدرجة على طاولة “بايدن”، على الأقل في المرحلة الأولى من ولايته، وهو ما يُعد في حد ذاته دعماً لإثيوبيا.
أو أن تُجرى اتصالات مصرية أمريكية لتسوية الأزمة لا تقتصر على دعوة الولايات المتحدة فقط للوساطة مجدداً، بل إيجاد أوراق ضغط تنجح مصر من خلالها في دفع أمريكا للمساعدة في حل الأزمة، وأن تخلق مصر لدى الولايات المتحدة المصلحة لتسوية هذا الملف، كما نجح السودان في أن يوجِد المصلحة لأمريكا بالتطبيع مع “إسرائيل”.
علاقة “بايدن” بمصر
لا يمكن فصل علاقة مصر بالولايات المتحدة الأمريكية عن مواقف واشنطن تجاه القضايا المصرية المختلفة، فالولايات المتحدة تتجه غالباً نحو ما يخدم مصالحها، والحزب الديمقراطي الأمريكي الذي سيدير أمريكا السنوات الأربع المقبلة عبر فريق “بايدن” يتبنى نهج “البرجماتية” أو “النفعية”، لهذا يبدو أن الموقف الأمريكي في ظل إدارة “بايدن” من أزمة “سد النهضة” سيكون أكثر اتساقاً مع موقف الإدارة ككل من مصر.
يؤيد هذا د. عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة، الذي يؤكد أن الدور الأمريكي في المرحلة القادمة سيتوقف على علاقة القيادة السياسية في مصر بالإدارة الأمريكية الجديدة التي يمكنها التدخل الجاد بغرض الوصول إلى اتفاق يرضي الدول الثلاث.
فبحسب شراقي، أمريكا لها مصالح كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وتعتمد على مصر كثيراً لتحقيق أهدافها، خاصة مع الدول العربية كما حدث في العراق، كما أن لمصر أيضاً مصالح مع أمريكا، ونظراً لعلاقة المصالح هذه، فإنه من المتوقع أن تتصرف الإدارة الأمريكية بحكمة وخبرة ودبلوماسية الرئيس المنتخب “جو بايدن” الطويلة لتعميق علاقاتها بمصر عن طريق حل قضية “سد النهضة”.
وهذا السبب (ضرورة سعي مصر لجذب أمريكا للاهتمام بملف السد مقابل مصالحها مع مصر) هو ما دعا عمرو موسي، أمين عام الجامعة العربية الأسبق، للقول: إن نتائج الانتخابات الجديدة في أمريكا وضعت على عاتق مصر مسؤولية كبيرة لإعادة التفاهم وطرح السياسة المصرية والمصلحة الإقليمية.
ومعروف أن أمريكا هي التي خططت لعمل المشروعات المائية في إثيوبيا منذ البداية قبل سنوات، لاستغلال ورقة مياه النيل ووصولها إلى السد العالي بعد انسحابها من المشاركة في بنائه؛ مما أدى إلى تأميم قناة السويس وحدوث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، فأرسلت مكتب الاستصلاح الأمريكي إلى إثيوبيا لعمل الدراسات الهيدرولوجية وانتهت إلى التخطيط لبناء 33 مشروعاً على النيل الأزرق منها “سد النهضة” الحالي.
سيناريوهات إدارة “بايدن”
سيناريوهات تعامل إدارة “بايدن” المتوقعة مع ملف السد والحل العسكري المصري حال تفكير القاهرة فيه، تتلخص بالتالي:
1- تأجيل البت في هذا الملف، أو اتخاذ موقف مع أو ضد أي من أطراف الأزمة إلى ما بعد توليه بعدة أشهر، وربما في أغسطس حين تثار مسألة الملء الثاني، ويتعاظم التهديد لمصر مائياً، وترتفع الأصوات في مصر بعمل عسكري.
2- التوازن في الموقف ما بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى، باعتبار أن الأطراف الثلاثة حلفاء لأمريكا، ومن مصالحها التوفيق بينهم؛ ما يشجع على احتمالات أن يتبع سياسة أكثر فاعلية من “ترمب” لحل الأزمة دون اللجوء للحل العسكري.
3- موقف إدارة “بايدن” الفعلي سيكون مرتبطاً بقدرات كل من مصر وإثيوبيا على تقديم نفسها كحليف وشريك إقليمي بما يقنع إدارة “بايدن” بالتدخل لصالح طرف والضغط على الآخر، وهو ما يبدو أن أديس أبابا والقاهرة تستعدان له بالفعل عبر مراكز الضغط واللوبي لكلا الطرفين داخل الإدارة الأمريكية والكونجرس.