في تركيا قبل 27 أبريل من عام 2007م، في الفترات التي كان يُشار فيها بشكل متكرر إلى وجود تهديد بالانقلاب على حزب العدالة والتنمية، كان هناك من يخرج ويقول: “هل ما زالت تحدثت انقلابات في هذا الوقت!”.
في الأغلب كان المقصود من عبارة “في هذا الوقت”؛ المسافة التي قطعتها تركيا في عملية التحول الديمقراطي في تلك الفترة، وأيضًا المسافة التي قطعتها في عملية الاندماج مع أوروبا من جهة ومدى انسجام اقتصاد تركيا ومجتمعها مع الاقتصاد العالمي في تلك الفترة من جهة أخرى.
تم استخدام هذا الخطاب أيضًا بشكل فعّال في مواجهة ادعاء الحكومة بأن العملية القضائية التي جرت في 25 ديسمبر وعمليات “غيزي” التي أطلقتها منظمة غولن، كانت كذلك عبارة عن محاولات انقلابية؛ حيث تم اعتبار أن هذه المحاولات هي محاولات انقلابية على أنها نظرية مؤامرة تم إعدادها من قبل الحكومة للتملص من الإجراءات القانونية وللتهرب من مسؤوليتها؛ لأنه -وفقًا لهم- لم يكن ليحدث انقلاب في تلك الفترة، لأن من يجرؤ على القيام بانقلاب في تركيا لا بد أن يكون على استعداد أيضًا لمواجهة العالم كله؛ وهو ما يعني أن ما كان يحمي الشعب التركي من الانقلاب لم يكن الشعب نفسه؛ بل كانت أوروبا والعالم قبل كل شيء، بحسب هؤلاء الأشخاص.
ولكن السؤال: هل كان ذلك ضمانًا جيدًا؟ وهل كان ذلك كافيًا لردع أولئك الذين يجرؤون على القيام بالانقلاب؟!
يمكن القول إنه بكل تأكيد قد تغير العالم من حولنا وبات حدوث الانقلابات أمرًا صعبًا، ولم تكن بلدنا في تلك اللحظة التي حاول فيها الانقلابيون القيام بالانقلاب كما كانت عليه في السابق حينما كان بإمكان أي شخص أن يستولي على محطة إذاعية أو أن يستيقظ مبكرًا في الليل ليقوم بالانقلاب. لكن هل كان الانقلابيون في تلك اللحظة يعلمون أن العالم قد تغير حقًّا وأن الشعوب لم تعد كما كانت عليه في الماضي؟
لنتذكر معًا تلك النكتة الشهيرة التي يمكن استحضارها دائمًا في مثل هذا الوضع: شخص مجنون كان يخاف من الدجاج لأنه كان يظن نفسه دُخنًا (نوع من الحبوب يشبه القمح)، بعد حصوله على العلاج الكامل وخروجه من المشفى عاد إليها ثانية قائلا: “لقد شُفيت ولكن؛ هل يعلم الدجاج أني لست حَبًّا؟“.
حسنًا؛ لن يحدث انقلاب في مثل هذه الحقبة، لكن هل يعلم الانقلابيون ذلك؟
إذا كانت عبارة “في هذا الوقت” تجعل من الانقلاب أمرا مستحيلا فهناك ضمان آخر وهو العلاقات التي كانت بين تركيا والاتحاد الأوروبي؛ حيث كان الانقلاب بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي أمرًا غير مقبول على الإطلاق.
ومع ذلك لم يقل الاتحاد الأوروبي إن أحداث غيزي أو محاولات 17-25 ديسمبر 2013 عبارة عن انقلاب، وحتى عندما توفرت كل الشروط لتسمية أحداث 15 يوليو 2016 بالانقلاب، لم ينبس الاتحاد الأوروبي ببنت شفة في ذلك الخصوص.
في الحقيقة؛ لقد تسببت دول الاتحاد الأوروبي في خيبة أمل أخرى بعدم وصف التدخلات العسكرية التي أوقفت الثورات العربية بأنها انقلاب أيضًا.
في الوقت الذي قلنا عنه بكل تأكيد إنه من المستحيل أن يحدث فيه انقلاب؛ كان يحدث الانقلاب بالفعل، فيبدو أنه لا توجد في هذا العالم أي ضمانات تجاه الانقلابات.
حدث بالفعل ما كان يُعتقد أنه من الاستحالة أن يحدث في بلد مثل ألمانيا؛ التي تقع في قلب أوروبا وهو الأمر الذي كان يمثل -في حد ذاته- ضمانًا ضد الانقلاب. هناك محاولة انقلاب حدثت فعلاً، وقد قطعت هذه المحاولة مسافة لا يُستهان بها.
لقد قامت منظمة يمينية متطرفة تُدعى “مواطنو الرايخ” تضم 21 ألف عضو بمحاولة انقلاب مدروسة بأدق التفاصيل بهدف إعادة تأسيس إمبراطورية القرن الـ19 الألمانية، حتى أنهم فكروا في تعيين الأمير هاينريش الـ13 حال وصولهم إلى السلطة. كما تم التخطيط لكل ما هو ضروري لحدوث الانقلاب من خطف الرئيس والوزراء وإنشاء حكومة الظل وتحضير الملك الذي سيتسلم الحكم.
كان من الجيد أن قامت المخابرات الألمانية باحتجاز العناصر الفاعلة في التنظيم وذلك من خلال مداهمة 137 نقطة مختلفة من أجل كشف الحادثة ومنع محاولة الانقلاب، وإلا لم نكن لنتخيل لو نجحت محاولة الانقلاب ماذا كان من الممكن أن يحدث في ألمانيا وأوروبا جميعها.
هناك استياء متزايد في معظم الدول الأوروبية بشأن المسار الحالي لأوروبا اليوم، ويؤدي هذا الاستياء إلى تراكم المزيد من الحقد الذي يؤدي بدوره إلى استنفاد ما عملت أوروبا على جمعه وتحقيقه من أسس مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتوحيد المعايير وغيرها من الأمور التي وصلت إليها في حقل العلم والمؤسساتية.
قد لا تثير الإمكانيات والجوانب الإيجابية لدول الرفاه أي مخاوف بشأن ما قد تخسره تلك الدول بوجود أولئك الذين يشاركون في محاولة الانقلاب أو يقرونها.
بالطبع؛ هناك انتكاسات بالنسبة لنا أيضًا. تدل هذه الصورة أن التاريخ لن ينتهي أبدًا عند مستوى العقل؛ ففي أعلى نقطة في العقل، يصبح الشخص مهووسًا بنزوة ما ويعود كل شيء إلى البداية.
——
* المصدر: موقع الجزيرة.نت.