إِنَّ الأُمَّة لتتقدم في سلم المجد والنهوض والازدهار إذا قدَّمت الأخيار للريادة وأخَّرَت الأشرار، وإن الأُمَّة لترفل في أثواب العزَّةِ والمِنعة والفخار إذا هي أحبَّت الصدق والصادقين، واعتزت بالإيمان والمؤمنين، وأخَّرَت الكاذب وقَدَّمت الأمين، وفى السُّنَّة المطهرة لسان صدقٍ للأولين والآخرين قال النبي ﷺ: «سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ»، قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: «الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ»(1)، وإن كانت النفس البشرية تتوق إلى الإمارة والريادة، فقد وضع القرآن الكريم لصفات الرجال الراغبين نموذجاً يُحتذى في قصَّة الأمين يوسف عليه السلام نحاول أن نترسم خطاها، ونقتفى أثرها؛ لتكون تبصرة وذكرى للراغبين والطامحين.
أقلام الفضيلة
العفَّة والأمانة من أمهات الفضائل التي يتحلَّى بها الشرفاء والنجباء، وإن كان يحلو للبعض أن يهتف بالعفة كلاماً فقد جعلها الصدِّيق أفعالاً، فما أجمل أن يلبس الكلام كسوته، قال جل ثناؤه: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (يوسف: 23)، بالنظر إلى هذه المفارقات العجيبة من خلال إيحاءات الآيات الكريمة، نرى امرأة في شرخ الشباب جمعت بين الجمال الصارخ والدلال الجامح، والمنصب والمال والجاه، تأمر فتُطاع وتشير فينهض لها ألف مجاب في مكان آمن، وخلوة معها أمان، وستر شامل بعيداً عن أعين النظراء والرقباء، وفراش وثير، وحماية ووقاية وخدم وعبيد، الكل هناك طوع إشارة البنان، فضلاً عن تحريك اللسان، هذا في الأغلب جوُّ القصور الذي يُنسي ظلمة القبور، وأمام فتى بلغ من الجمال التَّمام وربما قارب الكمال، غريب عن بلده عبد عند سيدته.
وبعد فهذه عواملٌ توفرت لوقوع المعصية؛ بيئةً وزماناً ومكاناً، وفوق هذا وذاك يبقى نداء الجسد الأخير، لكن أقلام العفة تتطاول لتشمل الزمان والمكان، وتسطر بكلمات الواحد الديان: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾؛ لذا كان الجزاء من جنس العمل، فهو في ظلِّ عرش الرحمن بعيداً عن لفحات النيران؛ «ورجلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ إلى نفسِها فقال: إنِّي أخافُ اللهَ»(2)، وهنا سؤالٌ مفاده: لماذا تستغل القيادة في السطو على عواطف الآخرين وأعراضهم وأموالهم؟ فالقائد لا بد أن يكون قدوة، وفي قصة الصدِّيق خير عظة وعبرة.
بين الحقيقة والادعاء
أجلُّ نِعَم الله على الإنسان أن يولَد مسلماً، بل هو تمام النعمة، ومن التمام إلى الكمال أن يثبت الله عز وجل الإنسان على دينه حتى الممات، وهذه صورة من صور الثبات نطق بها الصدِّيق عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (يوسف: 33)، وإن كان السجن كما يقرر البصراء: مقبرة الأحياء، وشماتة الأعداء، وامتحان الفضلاء والنجباء، فإن غياب نسيم الحرية أهون من غياب الدين، فلم يكن ثبات الصدِّيق ثبات لحظة، بل وصل إلى بضع سنين.
وفي إشارة مباركة من المعصوم ﷺ توحى بأدبٍ جم وتواضع كريم يقول ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لقَدْ كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، ولو لَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ، ونَحْنُ أحَقُّ مِن إبْراهِيمَ إذْ قالَ له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قالَ: بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)»(3).
وإلى هؤلاء الذين يتغيرون بعد المنصب وقد بذلوا في سبيله من ماء الحياء ما يكفي، فبالأمس كان هاشاً باشاً ضحوكاً، واليوم عبوساً قمطريراً، يرفع بألفاظه أشخاصاً ويضع آخرين، أين هي الفضائل والمُثُل والوعود التي أصبحت كالرعود؟ إنه التحول والتغير وعدم الثبات، أما الصدِّيق فلم يتغير بين الفقر والغنى، ولا بين السجن والحرية، ولا بين الضعف والتمكين، وإنما تبدلت الأحوال وبقي الإحسان يزداد مع الثبات على الإيمان.
صدق الانتماء
ذروة المأساة وقمة الملهاة أن ترفرف على المجتمع غيوم النفاق، وألا يحب الناس الناصحين المخلصين، وعندما يصبح شعار المجتمع «نافِق، اكذب، اظلم، اسرق»، وهي شعاراتٌ ترفع للمنافقين والظلَمة وسرَّاق المال العام، ساعتئذٍ تتحول الأمَّة إلى وحوش وأشباح، وتكون السماء ملبَّدةً بغيوم النفاق، ولا يمكن للأمة أن تتقدم إذا تخلَّت عن صدق الانتماء لهذا الدين العظيم: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (يوسف: 39).
إن صدق الانتماء يعني أن توظف الإمكانيات وتشحذ الهمم والطاقات لخدمة هذه الدعوة في كل الأحايين، ووالله إن صدق الانتماء لهو طوق النجاة من هذه العثرات التي تتخبَّط فيها الأمة، ويكثر فيها العواء والبكاء، وإن ترك الانتماء هو الداهية الدهياء والمصيبة النَّكراء، وأهم الأدواء في تأخُّر النصر وإجابة الدعاء.
والسؤال المطروح: كيف عرف الرجلان أن يوسف من المحسنين؟ ذلك لصدق انتمائه في دعوته، ولسان المخلص يجعل لكلامه نوراً ويفتح له مستغلقات الأمور، وإلى هؤلاء الذين يجعلون الانتماء اسماً بلا مسمى، ورسماً لا وسماً، وحقيقة لا معنى لها، عذراً فإن أرباب الديانات المنحرفة يعلنون انتمائهم لبَّاً ولباباً، ونحن ننتمى قشراً وإهاباً، وبوْن بعيد بين المُدارسة والممارسة.
المسؤولية بين التحمل والتنصل
كثيرون هم أولئك الذين يجعلون من المنصب والريادة سلماً للمآرب الشخصية، أو للانتقام والأنانية، وحبِّ الذات والمصلحة الفردية على النهوض والارتقاء بالمنفعة الجماعية، لكن الصدِّيق عليه السلام نحَى منحى آخر فهو لا يحقد ولا يضمر شراً ولا ينتقم لنفسه، فهو في سجنه ويُسأل عن رؤيا الملك فيفسِّر لهم الرؤيا ويقوم بدور الناصح الأمين الذي يعاني هموم الأمة، فينصحهم وهو مسجون كي يحتاطوا من مجاعة وقحط سيصيب بلادهم فيخزِّنون الغلات والمحاصيل في سنابلها لينتفعوا بها في سنين الجدب والقحط؛ وهي من أعظم الخطط الاقتصادية التي تُحمي بها البلاد، وتصان بها أرواح العباد من الجوع والغلاء والوباء.
ثم بشرهم بالغيث والفرج: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ {47} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ {48} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ (يوسف)، وكم من ورقات عمل قدمت في دنيا الناس غابت في سطورها مصلحة المخلصين، وبقيت مطامع الأفراد طالعة كرؤوس الشياطين! إنها المسؤولية التي تلقي بظلالها على الشرفاء الذين يحافظون على ممتلكات الأمة وشؤونها الخاصة والعامة.
رجاء ونداء
المطلوب الذى نأمله أن نقترب من هذا المستوى الرجولي من البشر؛ عفةً وأمانةً وصدقاً وعلماً وأدباً وخُلقاً، إن صناعة هؤلاء الرجال تحتاج إلى جهد جهيد وعرق متصبِّب، وعملٍ موصول، لقد شهد الرجال والنساء بالنزاهة والأمانة وعفة اللسان وطهارة الجنان للصديق عليه السلام: ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ (يوسف: 51).
وهل أتاكم مسك الختام بعد المحنة والابتلاء؟ إنه التمكين والعزَّة والتقاء طرفي الحلقة: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 101)، آمين يا رب العالمين!
_____________________
1- صحيح الجامع، ص3650.
2- صحيح البخاري (440/ 1)، رقم (1432)
3- صحيح البخاري، ص4694.