عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أن رجلاً قال في النبي صلى الله عليه وسلم مقالة سوء، فقال صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللهُ موسى قدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (متفق عليه)، إن المتأمل في قوله عليه السلام: «يرحم الله أخي موسى» يستشعر حجم المعاناة والأذى الذي رآه موسى عليه السلام في اختلاطه وتعامله مع بني إسرائيل.
فموسى عليه السلام نبي من أولي العزم الخمسة، وُلد ونشأ وتربى في قصر الفرعون بمصر إلى أن اشتد عوده واكتمل شبابه، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: 14)، وأصبح موسى منذ تلك الساعة رسولاً مبلِغاً عن ربه جل جلاله، وذلك في الوقت الذي كان فيه بنو إسرائيل (الأسباط) مضطهدين مستعبدين بأمر فرعون، إذ كان يقتل أبناء بني إسرائيل، ويستبقي نساءهم للخدمة، ويستخدم رجالهم في الأعمال الشاقة المهلكة، وذلك بعدما أفَلَتْ شمس دولة العزيز العادلة وأشرقت شمس دولة الفرعون الطاغية.
موسى من أولي العزم الخمسة وُلد ونشأ وتربى في قصر الفرعون بمصر
إعلان النبوة في قصر الفرعون
لما أرسل الله نبيه موسى إلى فرعون بقوله سبحانه: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17} فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) (النازعات)، رأى الأسباط في موسى سبيل النجاة؛ فآمنوا به، لعله ينجيهم من ظلم فرعون وبطشه، فنجاهم الله جل وعلا بمعجزة ظاهرة، حيث جاء الأمر الإلهي لموسى بالهجرة من مصر إلى مسقط رأس أجدادهم بفلسطين، فاتجهوا ناحية البحر الأحمر، وشق الله لهم فيه طريقاً يابساً، وأغرق فرعون وجنوده، وتحقق لهم ما كانوا يتمنون، ورأوا بأعينهم هلاك من كان يظلمهم يضطهدهم؛ لذا امتن الله تعالى عليهم بهذه النعمة فقال سبحانه: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة)(1).
المحطة الأولى: اجعل لنا إلهاً.. نكران الفضل ونسيان الجميل:
قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف: 138)، لقد تناسوا فضل الله عليهم، وما زالت معجزة البحر ماثلة أمام أعينهم، وراحوا يطلبون عبادة إلهٍ غيره، يطلبون عبادة أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، فأي طِباع هذه التي تنكر الجميل، وتكسر اليد البيضاء التي تمتد إليهم بالخير! إنها جِبلّة الأسباط وطباعهم المتأصلة فيهم، التي ورّثوها لأحفادهم من اليهود عبر الأجيال.
بنو إسرائيل جاوزوا البحر بمعجزة موسوية ودمر الله ما كان يصنع فرعون
جاوز بنو إسرائيل البحر بمعجزة موسوية ظاهرة، ودمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون، ثم تابعوا المسير على الشاطئ الشرقي جهة سيناء، وعلى الرغم من نكرانهم فضل الله عليهم، وميلهم إلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، إلا أن الله لم يعاملهم بجحودهم، وإنما أغدق عليهم من خزائن كرمه، وسحائب رزقه، لعلهم يتقون أو يُحدث لهم ذكراً.
المحطة الثانية: لن نصبر على طعامٍ واحد.. التمرد وعدم الرضا بما قسم الله:
ومن جميل فضل الله عليهم أنهم لما طلبوا ماءً يشربون منه ويسقون دوابهم، فجَّر الله لهم اثنتي عشرة عيناً، بعدد أسباطهم وقبائلهم، ولما أوشك طعامهم على النفاد، اختار الرزاق سبحانه لهم طعاماً طيباً، وأنزل عليهم المنّ مدراراً والسلوى أسراباً.
ولما اشتدت عليهم شمس سيناء بحرارتها، شكوا إلى موسى، فدعا موسى ربه، فستجاب له وساق لهم الغمام يظللهم ويقيهم لفح الشمس، وبعد كل هذه المعجزات الباهرة، والنعم السابغة، يأمرهم ربهم بقوله: (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 57)؛ فإذا بهم قد جحدوا تلك النعم، ولم يأبهوا لها فضلاً عن أن يشكروها، ورفضوا أن يستمروا عليها، وراحوا يطلبون غيرها قائلين: (يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ ) (البقرة: 61)، أرادوا ذلك الطعام الذي ألفوه بمصر زمان ذلهم واستعبادهم، وكرهوا الطعام الهنيء الذي قدم من الله لهم، وكأن هذه القلوب قد أغلفت، والبصائر طمست، حتى استبدلوا تمردهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.
تمردوا على هارون وعبدوا العجل الذهبي من دون الله العلي سبحانه!
سبحان الله! جبلَّة عجيبة، وطباع سوء غريبة يقول عنها صاحب «الظلال»: «لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها، ورجومها، فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فقد أنزل لهم منها المن والسلوى؛ عسلاً وطيراً، ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء»(2).
المحطة الثالثة: لن نبرح عليه عاكفين.. التمرد على عبادة الله:
ولم يكتف الأسباط المتمردون بهذا، وإنما بالغوا في تمردهم وطغيانهم، وكان من شأنهم أنهم لما تركهم موسى وذهب لمناجاة ربه، وتلقِّي التوراة عند جبل الطور، وكان قد أخبرهم أن المواعدة ثلاثون ليلة، فلما أمره ربه أن يتمم أربعين ليلة؛ كفروا بالله سبحانه، وتمردوا على نبي الله هارون، وعبدوا العجل الذهبي من دون الله العلي سبحانه! حيث قام رجل ماكر اسمه السامري، وقال لهم: إن الذهب الذي اختلستموه من أهل مصر قد أغضب الله عليكم، وإنما هي أوزار تحملونها تؤخر عودة موسى إليكم(3).
ثم أخذ السامري الذهب وطرح عليه قبضة تراب وطأ عليها حافر دابة جبريل، ثم صهره وصاغه في هيئة عجل له خوار، ثم قال لهم: هذا إلهكم وإله موسى الذي غفل عنه وذهب يطلبه عند الطور؛ فعبدوا العجل وتمردوا على عبادة الله تعالى.
فلما انطلق نبي الله هارون ليقول لهم: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه: 90)؛ ردوا عليه: (قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه: 91)، سبحان الله! وكأن فطرتهم الملوثة تقبل عبادة من لا يملك لنفسه أي شيء وترفض عبادة الله الذي بيده ملكوت كل شيء.
ساورتهم الشكوك بأن يكون موسى قد كلَّم ربه فطلبوا رؤية الله جهرة!
المحطة الرابعة: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.. التمرد على التوبة من ذنوبهم:
أدرك الأسباط أنهم قد ظلموا أنفسهم بعبادة العجل وأرادوا أن يعلنوا التوبة والذل لله تعالى، وإن من شأن التائب أن يُقْبِل بقلبٍ ذليل منكسر إلى ربه، أما هؤلاء القوم فقد شذوا عن هذه القاعدة المطردة، ورفضت فطرتهم الملوثة بجراثيم الكبر والتمرد أن يتوبوا إلى ربهم طواعية.
فقد اختار موسى سبعين رجلاً من خيارهم وأشرافهم ليذهبوا معه عند جبل الطور ليقدموا الطاعة، ويعلنوا التوبة والندم لله على ما فعلوا من جرم عظيم في حق من أكرمهم ونجاهم وأنعم عليهم، وهناك كلّم الله سبحانه نبيه موسى، فساورت الشكوك قوماً منهم في أن يكون موسى قد كلم ربه، فتمردوا وعصوا وقالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: 55)؛ فعاقبهم الله جميعاً، وأخذتهم الرجفة، فزلزلوا وصعقوا وظلوا يتساقطون على الأرض صرعى.
هنالك دعا موسى ربه متضرعاً أن يحييهم، وألا يؤاخذ الجميع بسفاهة السبعين، وأن يتوب عليهم فاستجاب الله له وأحياهم من بعد موتهم لعلهم يشكرون.
المحطة الخامسة: وإذ نتقنا الجبل فوقهم.. وفي رفع الطور عبرة:
واصل موسى السير بقومه متجهاً نحو بيت المقدس، كما واصل مسيرة الإصلاح والتربية لهم، وذكَّرهم بأيام الله، يوم أن نجاهم وأطعمهم وسقاهم، فما كان منهم إلا القسوة والتمرد والإعراض عن أوامر الله ورسوله، عندئذ رفع الله جبل الطور فكان كالغمامة فوق رؤوسهم، وأيقنوا أن الله سيسحقهم ويهلكهم، حينها وفقط، وتحت ضغط القوة والتهديد، ثاب الأسباط إلى رشدهم، وأظهروا تمسكهم بالتوراة، فهم قوم لا يقبلون الاحترام ولا يعترفون بالسلام، ولا بحقوق الآخرين، لا يعترفون إلا بالقوة، ولا يحترمون إلا الأقوياء.
رفع الله جبل الطور فكان كالغمامة فوق رؤوسهم وأيقنوا بالهلاك فتابوا
ففي أول بروتوكولاتهم قالوا: «الحق مع القوة»، هذا ما يعتقدونه، ولسان حالهم يقول: إننا نحارب إذاً نحن موجودون، فإننا نعيش في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.
وما أن أزال الله عنهم غمة الجبل، حتى نكصوا على أعقابهم، وواصلوا تمردهم على نبي الله موسى، قال تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة: 64).
وها هي أنوار فلسطين للقوم قد تبدت، وها هي نسائم البركات قد فاحت، وها هو الموكب الموسوي قد شارف أبواب الأرض المقدسة، لتتم الهجرة إلى فلسطين.
فهل دخلوا الأرض المقدسة؟ وكيف ومتى دخلوا؟ هذا موضوع مقالنا القادم بعون الله.
_________________________
(1) خطبة مفرغة بعنوان «صفحات سود من تاريخ يهود»، محمد حسان.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب.
(3) مع الأنبياء في القرآن، عفيف طباره.
(4) القصص القرآني، صلاح الخالدي.