يعيش الآباء والأمهات والمُربين في عصرنا الراهن جملة من التحديات المستجدة والمتنوعة التي ظهرت على الساحة بفعل تطور العصر واشتداد وطأة العولمة، إذ أصبحت الأجيال الجديدة على اطلاع واسع وإدراك كبير يحيط علماً بما يعتري العالم من تغيرات وتطورات في الأنماط الاستهلاكية والموضة و«الترند»، بما فتح مجالاً متنامياً أمام الآباء من الرغبات والمتطلبات التي يلح الأبناء في اكتسابها وتحقيقها تماشياً مع الموضة والأذواق السائدة.
وخطورة تزايد التحديات المتمثلة في ارتفاع سقف مطالب الأبناء وتنوع احتياجاتهم لا تكمن في تنامي النزعات الاستهلاكية لدى الأجيال الناشئة فحسب، بل تتعدى ذلك إلى أخطار لا يلتفت إليها كثيرون، إذ لا تظهر آثارها بشكل مباشر وفوري على سلوكيات وثقافة الأجيال الجديدة، بل تتجه إلى التأثير ببطء وفاعلية على عقلية وثقافة تلك الأجيال حتى تبدو وكأنها أمراً اعتيادياً لا يتسرب إليه الشك ولا يخضع إلى النقد والتمحيص اللازمين.
«البراند».. والموضة
يشير مصطلح «البراند» أو العلامة التجارية إلى ثقافة استهلاكية من نوع خاص، تلتزم باستهلاك أنواع محددة من المنتجات ذات الشعار أو الصورة أو الرمز أو الاسم المميز دون غيرها من نفس المنتجات التي تقع في الفئة ذاتها، نتيجة ثقة متوهمة في أن تلك العلامة التجارية أفضل من غيرها بغض النظر عن موضوعية الأسباب التي بُنيت عليها تلك الثقة، وما إذا كانت أسباب موضوعية أم تم اكتسابها بشكل غير واعٍ تحت وطأة حملات دعائية مضللة.
وقد انتشرت ثقافة «البراند» حينما بدأ التنافس الدولي فيما بين الدول الاستعمارية على الترويج إلى منتجاتها الصناعية، بغرض تعزيز جاذبية منتجاتها لدى الأسواق النامية في الدول المحتلة أو المستقلة حديثاً، وعقب ظهور التنافس الاقتصادي بين العالم الغربي والدول متسارعة النمو في الشرق الأقصى كالصين والهند، باتت فكرة العلامة التجارية جزءاً لا يتجزأ من الحملات الإعلامية التي استهدفت التأثير على سلوكيات المستهلكين لإقناعهم بأهمية وتفوق تلك المنتجات الغربية على ما دونها من «البراندات» أو العلامات التجارية الأخرى التي تم إلصاق تهمة التقليد بها باعتبارها أقل في مرتبة الجودة من تلك الأصلية، لا لشيء سوى أن الأخيرة لديها العلامة التجارية الموثقة قانوناً من جهة ما تنتمي على الأرجح إلى الغرب، بينما المنتجات الأخرى ليس لديها ذلك الاعتماد الغربي.
أخطار غواية «البراند»
لكن الحسابات التجارية وفكرة الأصيل والمقلد ليست العامل الحاسم في خطورة ثقافة «البراند»، فكثير من الدول الغربية قد اضطرت أخيراً إلى فتح فروع لمصانعها وشركاتها في الدول الآسيوية لانخفاض التكلفة، فلم يعد ثمة فارق حقيقي بين الأصيل والمُقلد -من وجهة النظر الغربية- سوى علامة تجارية باتت بمثابة إشهار بالتفوق على أي منتج مهما كانت كفاءته الحقيقية، لكن ثقافة «البراند» التي باتت جزءاً من الحياة اليومية للأجيال الجديدة عملت على تشوية وتعطيل عدد من المهارات والمبادئ والقيم بشكل متعمد، وتنامت خطورة تأثيراتها إلى كافة نواحي الحياة، ومنها:
– ترسيخ الذاتية على حساب الموضوعية: إذ ينشأ أجيال من الشباب والنشء لا يهتمون بالجودة، وعاجزين كلياً عن الحكم الصحيح الموضوعي على الأشياء نظراً لتركيزهم بشكل أكبر على الاسم التجاري والشعار أكثر من اهتمامهم بحقيقة وتفاصيل ذلك المنتج، وهو سلوك يؤثر ثقافياً في سائر مناحي التفكير بما يجعل أي شيء قادم من الغرب غير خاضع للنقد والتشكك والمراجعة، بل يتم أخذه جاهزاً باعتباره أصيلاً وصحيحاً وجيداً في جوهره دون تمحيص، وهي مغالطة منطقية شهيرة يطلق عليها الاستناد إلى سلطة، فطالما سلطة ما اعتمدت فكرة أو منتجاً؛ فيخضع لها الإنسان بالتبعية دون تمحيص لمنطقية تلك الفكرة أو جودتها الحقيقية.
– الطبقية: يعزز التفكير الشكلي في امتلاك علامات تجارية محددة من عدم المساواة بين طبقات المجتمع وترسيخ الفوارق الاجتماعية، حيث صار امتلاك علامات تجارية معينة دليلاً على الرقي الاجتماعي طالما تلك العلامات دائماً هي الأغلى من حيث السعر، فبات الترقي الطبقي مرتبطاً بالاستهلاكية وليس الإنتاجية والمساهمة في خدمة النهضة العامة للمجتمع، بل يتم تقييم الشخص من عدد وكثافة استخداماته للعلامات التجارية.
– تراجع الثقة في النفس: فبينما أصبحت مكانة الأشخاص معيارها الأساسي استهلاكها للعلامات التجارية، انتشر بين الأجيال الجديدة انخفاض كبير في مسألة الثقة في النفس، وانتهى الاعتقاد بأن مكانة الأنسان بحجم إنجازه العلمي والثقافي والعملي، وهو ما جعل الأبناء منصرفين عن التعليم واكتساب المعارف والتدرب على مهارات سوق العمل إلى مزيد من استهلاك العلامات التجارية والتفاخر بذلك أمام الآخرين.
التربية.. وإمكانات التصدي لغواية «البراند»
تخلق تلك المعطيات تحدياً كبيراً أمام المربي الذي يقف عاجزاً أمام استشراء ثقافة استهلاك العلامات التجارية، وجنون ارتباط التقدير الشخصي بحجم امتلاك العلامات التجارية، التي خلقت لدى الأجيال الجديدة رغبة قوية في الثراء السريع السهل الذي يحقق طموحات منحصرة في الاستهلاك فقط.
بالإضافة إلى ذلك، باتت التوعية بأهمية تفعيل العقلية النقدية القادرة على الإفلات من غواية الموضة الاجتماعية وشيوع أنماط استهلاكية معينة، أمراً شديد الصعوبة أمام المربي الذي بات شبه وحيد في مجتمع من الآباء والأمهات المنغمسين أنفسهم في تلك الثقافة الاستهلاكية، ناقلين إياها لأبنائهم بالتبعية، مما يعزز من رسوخ تلك السلوكيات في ثقافة الأجيال الجديدة واشتداد وطأتها.
ورغم كل تلك الظروف المناوئة أمام المربي الواعي بخطورة المسألة، فإن أحداث السابع من أكتوبر قد خلقت بيئة عالمية مواتية أمام توعية مجتمعية وأسرية جادة للأجيال الجديدة، فقد تولد زخم كبير عن حملات المقاطعة يجب استغلاله بشكل واعٍ ومكثف لتسليط الضوء على ثقافة المقاطعة، ليس فقط باعتبارها إحجاماً عن استهلاك أنواع معينة من العلامات التجارية لأنها مؤيدة للكيان «الإسرائيلي»، بل يجب أن تتعدى ذلك إلى التوسع في التشكيك في ثقافة العلامة التجارية بأسرها، وفهم مسألة الجودة والموضوعية في الحكم على الأمور بشكل عام والمنتجات الاستهلاكية بشكل خاص.
ومن ناحية ثانية، يجب أن تنطلق التوعية إلى مسألة الغرب ومنتجاته الاستهلاكية التي تعد أحد أشكال القوة الاستعمارية للشعوب والمجتمعات النامية بغرض إحكام السيطرة الثقافية والاقتصادية عليها، عن طريق القضاء على الصناعات الوطنية التي قد تشكل تهديداً لأسواق تلك العلامات التجارية الغربية.
وأخيراً، فإن المربي هو مرآة أبنائه، وعلى صورته وأسلوب تفكيره ينشأ الأبناء تلقائياً على نفس النمط، وهو ما يتطلب توعية مجتمعية للآباء والأمهات والمربين أولاً ليكونوا على قدر المسؤولية المطلوب، ليقدموا في أنفسهم القدوة لأبنائهم ويسهموا بسلوكياتهم الاستهلاكية المتوازنة والواعية في خلق أجيال جديدة أكثر وعياً في مواجهة غوايات متنوعة لا تقتصر على «البراند» فقط.