تمر الأمة الإسلامية بمرحلة من الوهن الشديد، حتى إنه لتتجلى مظاهره في جميع المجالات كالدين والسياسة والاقتصاد والأخلاقيات.. إلخ، ويبحث الكثيرون عن طرق معالجة هذا الوهن وإحياء دور الأمة الريادي على مستوى العالم أجمعه، حتى تنال خيريتها التي كانت؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، وكما هو معلوم بأنه يستحيل معالجة داء دون معرفة أسبابه؛ لذا ظهرت الحاجة لتأمل نصوص الكتاب والسُّنة لمعرفة ما ذُكر من أخبار ضعف الأمة الإسلامية وطرق علاجه، وهذه بعضها:
1- اتباع الأمة لسنن أعدائها:
عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَن؟!» (رواه البخاري، ومسلم).
وقد اشتمل هذا الحديث على داء مركزي تمثل في تقليد الأمة الإسلامية لأعدائها، ومظاهر هذا الداء تتجلى في:
– شدة الموافقة والاتباع لهم مهما سبّب من عنت وضيق وضرر، حتى شبههم الحديث بدخولهم في جحر الضب المعروف بضيقه ونتن ريحه وخبثه.
– غياب الدين وضياع الهوية الإسلامية كنتيجة طبيعية لتقليدهم في عاداتهم وأفكارهم وأخلاقهم.
– الخروج عن هدي الدين في القول والعمل مما جعل الأمة تفقد ولاية الله لها ونصره وتأييده.
– الضعف المعرفي لمركزيات الإسلام كالبراء من كل ما يضاد الدين ويناقضه.
ومن عظمة دين الإسلام أنه وكما جاءت نصوصه في الوحي الشريف صريحة في ذكر الداء، فكذلك جاءت صريحة في ذكر الدواء، ومنه قول الله عز وجل: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: «قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ» (رواه مسلم)، وفي ذلك:
– الاعتزاز بالهوية الإسلامية، وأنها نمط مهيمن على جميع جوانب الحياة بدءًا من الهيئة الخارجية وصولاً إلى القلب والجوارح.
– بناء التصورات والمعايير من خلال جعل الغاية هي الله واليوم الآخر.
– جعل الاتباع الكامل محصوراً على نهج النبي صلى الله عليه وسلم المعلوم من هديه وسيرته.
2- حب الدنيا وكراهية الموت:
عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها»، قيل: يا رسول الله، أمن قلة بنا؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن»، قالوا: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وهذا الحديث ينبه المسلم إلى داء قلبي خطير؛ ألا وهو التعلق بالدنيا حد كراهية تركها، ومظاهر هذا الداء تتجلى في:
– الركون إلى نعيم الدنيا وترك العمل للآخرة، مما يورث القلب الخوف من الموت.
– كثرة عدد المسلمين بلا فائدة في صلاح حالهم، لحرصهم على حياتهم أكثر من حرصهم على آخرتهم.
– اجتماع الأمم على المسلمين لينالوا منهم كما شاؤوا مثلما ينال الآكل من طعامه.
– عدم خوف أعداء الإسلام من المسلمين لضعفهم وتفرقهم.
وأما العلاج الذي ذكره الوحي لهذا الداء فيظهر جليًا في قول الله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، وقوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة: 8)، وفيها:
– أن الإيمان وحده هو الذي يُصلح القلب ويضبط وجهته، فلا يركن للدنيا بل يجعل همه الآخرة.
– ربط وعد الله بالنصر بالإيمان، وهو يوقد الهمم ويُرغب النفوس في تحقيق الإيمان قولًا وعملًا.
– ضبط التصورات عن الموت وأنه لا مفر منه؛ فلن يُخلد على هذه الأرض مخلوق، وهذا ما يجعل النفوس مبصرة بمآلات أفعالها الأخروية.
– التذكير بحتمية الموت والحساب يوم القيامة، وهو الباعث على بذل كل غالٍ ومن باب أولى الوقت والمال في سبيل إعلاء كلمة الله.
3- ظهور مخالفة أوامر الله عز وجل في المجتمعات:
يقول الله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)، وفيها:
– فساد المجتمع يبدأ من فساد الطبقة المؤثرة فيه.
– أهل الترف الباطل غالباً يحاربون دعوة الحق والخير بكل قوة؛ لأن الحق يفضح زيف أحوالهم وضعف دينهم.
– الانغماس في الشهوات المحرمة، وعدم امتثال أمر الله من أشد عوامل إضعاف المجتمع.
– عدم إنكار المنكر يتسبب في غربة مفاهيم الفضيلة والقيم الخلقية في المجتمع.
– تسلُّط فاسدي الرأي والعقل، وغياب دور المصلحين وتهميشه من أشد عوامل فساد المجتمع.
ومن أهم طرق علاج هذا الداء التي ذُكرت في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج)، وفيها:
– أهمية الدور الإصلاحي المتمثل الدعوة سواء في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، لما فيه من تثبيت الفضائل وتقوية المجتمع وترابطه.
– أهمية معرفة صفات من ينصرون دين الله حقاً عمن يدعي ذلك زوراً، وأنهم هم أهل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– من أهم أسباب نُصرة الله لعباده وتمكينهم في الأرض حرصهم على إقامة الدين بكل ما شرعه الله وأوله الصلاة.
إن أسباب وهن الأمة المذكورة في الكتاب والسُّنة لا تعد كثرةً، وربما يصيب هذا البعض باليأس والإحباط فيثبطه عن العمل، ولكن ذلك لا يصح لا شرعًا ولا عقلًا، فلا بد أن يبذل المسلم جهده في نصرة هذا الدين، وأن يُري الله عز وجل من نفسه خيراً وإن عمل بمفرده، وليتمثل قول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، فليحاول أن يفعل المستطاع في تغيير ما بنفسه على الوجه الذي يرضي الله تعالى، ثم لينصح غيره ويصبر على ما يلاقيه رغبة في الثبات على الحق حتى يلقى الله فيثيبه النعيم الدائم الذي لا يزول، والحمد لله عز وجل على دينه وكتابه وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.