إذا سألت مسلمًا: هل تريد رضا الله؟ لكان الجواب المتوقع غالبًا هو: بالتأكيد! والكثيرون يريدون ذلك حقًّا، ومع ذلك تظل صلة المسلم بربه أكثر الصلات ذبذبة وأقل الجوانب تقدمًا مقارنة بغيرها، وقل مثل ذلك عن أي عمل جاد في الحياة يطول تخطيط صاحبه لعمله وتمنيه له ورغبته فيه، لكنه لا يكاد يُحرِز فيه عملًا مهما طال أمله.، لماذا؟
لأن الإرادة -بمعنى الرغبة والميل- وحدها لا تؤدي لشيء، ولا يمكنك أن تصدق فيها على هيئة مُجرّدة، فمجرد الإغراق في إرادة الإرادة ينقلب بسهولة لتمنيات وأحلام يقظة! فلا بد من عمل، بل إن العمل في كثير من الأحيان هو الذي يربّي الإرادة ويولِّدها في نفس صاحبها.
وذكر الغزالي في «إحياء علوم الدين»: وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم، وحال، وعمل، فالحال؛ أي نية القلب وصدق الوجدان طرف وسط بين علم العقل وعمل الجوارح، فلا بد من الكل معاً.
وأما أن مادة خلق الإنسان ضعف، وأنه بحاجة لتسنيد وتشجيع وتحفيز دائم، ففيه وجه حق أريد به باطل، ذلك أن الإقرار بحقيقة الضعف الكامن في خلقتنا لا يعني اتخاذه حجة للتخاذل أو مبررًا للانغماس في القهر النفسي والعجز الوجداني، إذ إن في تركيبنا كذلك تطلعًا للمعالي وتشوقًا للجد في معاملة الحياة، الذي منه بذرة القدرة على التكليف، فإننا لم نُكلَّف على الرغم من ضعفنا بل وفاقًا له، فالخلقة من الخالق والتكليف من الرب الذي خلق، لذلك لا الضعف مانع صاحبه من أخذ حياته بقوة، ولا أخذ الحياة بقوة مانع صاحبه من الانزلاق لما لا بد لابن آدم أن يذوقه من ضعف بدني ووجداني وحزن وألم وانجراف وراء الهوى، فإنما هي أحوال وأطوار النفوس في الحياة، وكل حول وكل طور له عبودية وقته.
وحينما نتأمل في حكمة تحريم الله تعالى للمُسْكِرات نجد أنها تذهب بتكريم الإنسان وتاجه؛ العقل، فالمُسكِر هو كل ما يُسْكِرُ، أَيْ يُحْدِثُ دَوَرَاناً فِي الرَّأْسِ وَيُفْقِدُ شَارِبِهِ الوَعْيَ والإدراك، ومن هنا سمّيت الخمر خمراً لأنها تَخْمُر العقل؛ أي تغطيه وتطمسه، فهل خطر لك أنك قد لا تكون شاربًا للخمر فعليًّا، لكنك غارق في السُّكْر حقيقة؟ إن كل محاولة لتنسى، لتسلو، لتغفل، لئلا تفكر، لئلا تتذكر، لئلا تعلم، لئلا تعقل.. وما شاكلها، كلها من صور السُّكْر؛ لأنك تغرق فيما يُغيّب عقلك عن الحاضر أو يعطّله عن مواجهة مسؤولياته، قد يتخذ ذلك السُّكْر صورة الإغراق في مشاهدة فيلم بعد فيلم أو مسلسل وراء مسلسل، في الدوران العبثي في «فيسبوك» وتقليب الصفحات بالإنترنت بلا طائل، في الدردشات والمحادثات المسموعة والمكتوبة عن السفاسف والتوافه، في البطء المستميت في الحركة وإنجاز المهام الروتينية حتى ينقضي اليوم والسلام، في الانغماس في دوامات لقمة العيش حتى يتسرب العيش نفسه من بين أصابعك، في النوم الكثير والخمول الممتد بلا أمد.
قمة السَّكر هو أن تعيش حياتك هارباً من حياتك، غير أنه سَكَر مقنّع مادتّه النفوس لا الكؤوس! وما تفر منه لا مفر منه، وهو لا بد ملاقيك، فإن سَكِرت عنه هنا عَقِلته هناك حيث لا ينفع إبصار بعد أن اختار صاحبه العمى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق: 22).
وحين نتأمل توجيهات الله تعالى عن أعدى أعداء بني آدم من كيد الشيطان واتباع الهوى وخواطر النفس الأمّارة، بالسوء، لا نجد فيها توجيهاً يدعو للهرب أو الفرار أو الخوف، لم يأمرنا الله بالخوف إلا منه، ولم يدع للفرار إلا إليه؛ أما أولئك فكانت الأوامر بصددهم دائماً تقوم على فعل إيجابي لا تولٍّ سلبي: استعذ، استعن، قاوم، استغفر، تب، أصلح.
ليس من ديننا الهروب من مواجهة مسؤولية الحياة ومسؤولية العقل ومسؤولية الاختيار، إن هذه المسؤوليات هي ما تجعل منك إنساناً، فلا أنت حيوان ولا ملاك ولا شيطان، وإنما تكوينك الفريد من جماع خصائصهم هو عين الامتحان وحكمة الاختبار، وطالما أنك موجود فأنت ممتحن شئت أم أبيت، ثم إن خشية ثقل المسؤولية لا يحلها الهرب منها! لماذا لا ننتبه أن الهروب ليس حلًّا؟ وأن تولية الظهر لأمر لا يلغي وجوده؟
لذلك أهم ما ينبغي أن يستحضره كل فرد في نفسه أن مسؤولية استنهاض نفسه من رقدتها، وزحزحتها من إخلادها، ودفعها أو جرجرتها بصبر ودأب من قاع الاختناق لسعة التنفس، كل هذا مسؤولية كل فرد على نفسه وفي نفسه وبنفسه.
نعم، نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، لكن التواصي جهة، والمثابرة على ما نتواصى به والاستمرار عليه ولو بأدنى قدر حتى في أحلك الأوقات النفسية جهة أخرى، والجهتان منفكتان، ونحن لا نحب أن نقر بذلك الانفكاك بين الجهتين، ونتكوّر في رَحِم الضعف مفضلين ظلمته، على وجع مخاض النور وميلاد القوة، فنظل دائماً معلقين بأطواق النجاة الخارجية، منتظرين الصحبة الصالحة أو الصديق القوي أو الشخصية الملهمة، فإن لم نجد، أو وجدنا حينا ثم فقدناهم حينا، نلومهم على تركنا لضعفنا، ونحقد عليهم استغناءهم عنا بقوتهم.
ووالله ما منا إلا ضعيف!
ووالله ما القوة إلا بالله!
هاتان الحقيقتان اللتان نخطئ دائماً تقديرهما حق قدرهما! وهاتان الحقيقتان اللتان بهما تتفاوت مدى قوة الناس وصلابتهم، ويتفاوت مدى الحضيض الذين يمكن أن ينجرف إليه كل واحد في نفسه، فيستنهض نفسه منه أو يُخلِد إليه حتى يموت على ذلك! والمشكلة كلها من الأصل تكمن في أننا إما أن نطرق الأبواب الخاطئة، أو نطرق الطرق الخاطئ، أو نرفض الدخول حتى بعد فتح الباب!
لذلك، إياك أن تعفي نفسك من مسؤولية نفسك مهما يكن حالك؛ وإياك أن تعوّل على مخلوق أبدًا مهما يكن حاله؛ وإياك أن تجعل ربك آخر ملاذك، أو تصادر أحكامه بأحكامك؛ قد منّ الله عليك بالإسلام فلا تكفره، وأدخلك في حِمى الديانة بفضله فلا تُخرِج نفسك منها بحماقتك؛ باب ربك مفتوح فلا تغلقه، وحياتك مستمرة فلا توقفها، وقبرك آتٍ فلا تتعجله، ولا تَبِع نفسك بنفسك، فإن عاقبة ذلك على نفسك، وفي المرة القادمة التي تهم فيها بالفرار، فِرَّ إلى الله تعالى، لا منه.