ما أكثر تشابه أحداث التاريخ! وما أكثر تكرار تلك الأحداث! وكأن أخطاء وأطماع بعض البشر لا حل لها سوى الغزو، ثم الحروب، ثم التحرر أو الاختفاء طي صفحات التاريخ بغير عودة! وإذا قمنا بالبحث في تاريخ الأمة القديم والحديث سوف نفاجأ بأن الأحداث تكاد تكون متطابقة في بعض مراحلها، وفي أجزاء من الرواية التاريخية الإسلامية والعربية، وحين قال الله عز وجل في محكم كتابه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، لم تكن مجرد حكايات للتسلية، وإنما للاعتبار والتدبر والتصبر لتشابه الأحداث، فهؤلاء المؤمنون الأولون صبروا وعليكم الصبر، وانتصروا ولكم النصر، وهزم الكفار شر هزيمة وسوف يهزم كفاركم بإذن الله.
ففي غزوة الأحزاب، على سبيل المثال، نستطيع أن نستقرئ التاريخ عن حصار الأمة المسلمة والمتمثلة في المدينة المنورة التي تحوي الأمة كاملة بقائدها محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تجرأت عليها كافة الأعراب لتحاصرها، بينما عدوها الأول من قبائل اليهود قابع بجوارها على أطراف المدينة يتحسس لحظة الضعف لينقض كافة الاتفاقيات التي وقع عليها وقت ضعفه، وحين ظهر الإسلام بالمدينة فلم يعد يملك خياراً إلا اقتناص تلك الفرص، ليغدر ويخون كعادته، ويكون نهاية الأمر حتفه في خيانته وخروجه من حدود الأمة الوليدة إلى حيث لا رجعة.
ثم وجدت مصاباً ربما كان أكبر من الحصار والخيانة، وهو المشهد الذي لم يتكرر بحجمه حين سقطت الخلافة العباسية بمساحاتها الشاسعة، وأعدادها الغفيرة أمام طوفان التتار والصليبيين في آن واحد، أسقط عاصمة الخلافة التي غرقت في بحر من الدماء، وظن الناس في ذلك الوقت أن الإسلام قد انتهى تماماً.
فهل تشبه تلك الأحداث ما تمر به الأمة اليوم؟ هل صارت كل دولة منفردة بنفسها في مواجهة تتار العصر؟ هل عجزت الأمة عن لم الشمل وعليها أن تبحث عن عز جديد يكون سلطاناً للعلماء يحرك ساكنها، ويوحد كلمتها، ويرفع من عزيمة جنودها؟
الحركة الإسلامية.. الحاضر الغائب في المشهد المعاصر
من الإنصاف للحركة الإسلامية اليوم أن من عباءتها خرجت «حماس» و«الجهاد» وسائر حركات المقاومة الفلسطينية التي ما زالت صامدة بعد عام من القتال، وبعد استشهاد قادتها، وارتقاء أكثر من 45 ألفاً من شعبها، لا لشيء إلا لتمسكهم بدينهم وأرضهم وتاريخهم وتراب أجدادهم.
يحسب للحركة الإسلامية المعاصرة أن تخرج فصائل المقاومة من رحمها، وتتمسك بأصل الفكرة التي نشأت عليها الحركة الإسلامية دون تنازل عن أصل من أصولها، وهنا يعن لنا السؤال الأهم، وهو: أين الحركة الإسلامية الأم مما يدور من أهوال وأحداث عظام على الأرض المباركة؟ أين من يمثل العز بن عبد السلام الذي كان الصخرة الأولى في تحطيم جيش ضخم لا آخر لعدده ولا لعدته، ليس بحمل الشيخ السلاح، وإنما بكلمته ومواقفه وفهمه للنصوص وشجاعته في مواجهة المسؤولين؟
وإن من المفارقة العجيبة أن تنشأ الحركة الإسلامية في ظل الاستعمار، وتواجه، وتجاهد وتصنع بطولات أسطورية سطرها تاريخ المقاومة العربية بطول بلاد العرب وأرضها، وما بطولات عمر المختار عنا ببعيد، وما أحداث قناة السويس غابت عن ذاكرة الأمة، وما اللحمة الشعوبية بفلسطين في الـ48 رغم الخيانة غائبة.
لقد قامت الحركة الإسلامية بعد سقوط الخلافة لرتق الثوب الذي اهترأ، وتجمع كلمة شعوب مزقها المستعمر، وتغرس مفاهيم جديدة بعد أن بليت الفكرة في نفوس الناس، فكان الإسلام مجرد صلاة داخل صومعة أو محراب لا يخرج به المصلي للشارع، فأين تلك الطاقة التي جددت للأمة دينها بعد هوان؟ أين رجالها وقد تركت المقاومة الفلسطينية منفردة تدفع ثمناً غالياً في سبيل تحرير أرض المسلمين جميعاً، ثم نجد تلك الهجمة الشرسة على شهدائها وقادتها وقد وقفوا بمفردهم في خندق تخلى عنهم فيه الجميع، بمن فيهم حركتهم التي كانت يوماً مباركة؟ لقد حضرت المقاومة الإسلامية بغزة وحدها، وغابت الأصول بعيداً عن الحدث، بعيداً يتناحرون فيما بينهم.
كيف استطاع قطز أن يفعلها؟
وليس من الإنصاف أن نزعم أن قطز كان بطلاً خارقاً استطاع بمفرده أن يناطح جيش التتار المليوني، بجيش من مصر التي كانت متناحرة من الداخل، يرزح أهلها تحت خط الفقر والمهانة والخوف الذي اجتمع عليها من أمراء المماليك في ذلك الوقت، ووصل الأمر بها إلى أن كل من يستأمر عليها يتم قتله، حتى مرت فترة زمنية وهي بغير أمير يحكمها بعدما تقاتل أمراء المماليك فيما بينهم على أحقية أي فصيل منهم بالحكم، وتم تمزيق الجيش بين الأمراء، وتأتي الأخبار تباعا بسقوط مدينة تلو الأخرى، ليكون آخرها رسالة إلى مصر بالاستسلام، ولم يكن هناك حاكم ليتلقاها!
وهنا تظهر الحركة الإسلامية بكامل عنفوانها متمثلة في الشيخ بن عبدالسلام، وقد توافرت في الشيخ كامل ما تحمله الحركة من صفات؛ القوة الإيمانية، والقوة البلاغية، والشجاعة والاعتقاد بحتمية النصر بتوحيد الكلمة وتجهيز الجيش بعيداً عن الفقير الذي لم يعد قادراً على توفير قوت يومه، وقد تمثلت قوة الشيخ في قدرته على أن يشكل له ظهيراً شعبياً كبيراً، جمع شعوب آسيا وأفريقيا خلفه على إرادة واحدة.
والشيخ يستطيع تحريك الأمة، لكن الحركة الإسلامية وحدها لا تكفي وإن اجتمعت لها الإرادة، هنا يجب تحييد البعض، وكسب البعض، والجهر بكلمة الحق لصالح القضية والبحث عن قائد يؤمن بالفكرة، ليس بالضرورة أن يكون الشيخ نفسه، فالشيخ له قدرات، والحركة الإسلامية التي تواجه مشكلات وجودية لا تقدر، فليكن القائد ليس الشيخ، وإنما قائد شاب، قوي، يحمل الفكرة، شجاع، مقدام، ذو عقل ومروءة، يجمع المال من الأغنياء لتجييش الجيش الصغير نسبياً بالنسبة للعدو الذي سحق دولة الخلافة سحقاً، يخطط جيداً باختيار أرض المعركة، والأرض لا تهزم صاحبها ولا تخذله، وقد كان هو صاحبها بفكرته ودينه وعزيمته ومنطلق خروجه، يبادر بالضربة قبل أن تأتيه في داره كالسابع من أكتوبر، يعد جنوده ويشحذ عزيمتهم، ثم ينطلق ببركة الله.
الخطوة الثانية بعد استشهاد قائد المقاومة
الشهادة في الإسلام يعلم المسلم قيمتها، وهي غاية أمنياته، ومن يعتبرها خسارة للأمة فهو لا يعرف فقه الجهاد، والله عز وجل هو من يتخذ من المؤمنين شهداء، ثم يكمل الباقين طريقهم دون التفات إلا أن يتعلموا ويرفعوا هممهم لينالوا من ناله السابقون من فخر الشهادة، وآلاف من القادة قتلوا على مدار تاريخ المسلمين ولم يسقط الإسلام، بل لقد اختفت دول بأكملها حين غاب الجهاد وهرب الناس من الشهادة.
فالخطوة الثانية بعد استشهاد القادة هي استمرار المقاومة، ولا يستطيع أحد أن ينكر على صاحب أرض مغتصبة أن يقاوم، وكما كان النصر حليف قطز رغم صعوبة المشهد، فكذلك النصر حليف كل من يقاوم محتلاً اغتصب أرضه حتى لو ساندته كافة المؤسسات الدولية التي فقدت صلاحيتها حين انحازت لمحتل دموي، فلتقاوم فلسطين ولتصنع نصراً جديداً على أرضها، بالأمس كان «عين جالوت»، واليوم صارت غزة.