كان من أسمى غايات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزول معجزة الإسلام عليه القرآن الكريم، كان من أسمى تلك الغايات أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد تكرر الخبر بذلك في القرآن الكريم مرات عديدة، منها قول الله تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {257})(البقرة).
فهنا أتى الخبر صريحاً بأن الله تعالى يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، وذلك ببعث الأنبياء وإنزال الكتب، ولكن شياطين الإنس يريدون أن يخرجوا المؤمنين من النور إلى الظلمات عدواناً وظلماً، فالأهداف واضحة والطريق واضح بَيِّن.
الظلمات والنور
والظلمات والنور لا يستويان لدى أولي البصائر والألباب في كل زمان وكل مكان؛ وانظر التعبير القرآني الكريم: فقد جاءت لفظة «الظلمات» جمعاً، بينما جاءت لفظة «النور» مفردة، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ {19} وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ {20}) (فاطر)، فالظلمات كثيرة ومذاهب الكفر والفسوق والملل كثيرة لا حصر لها؛ أما النور فواحد فقط، والقرآن الكريم هنا يؤكد أن الظلمات والنور لا يستويان كما لا يستوي الأعمى والبصير؛ ومن قال: إن الأعمى والبصير سواء فقَدْ فقَدَ عقله وإحساسه!
إن الظلمات كثيرة؛ والظلام واحد، فالظلام سواد يخفي خلفه أخطار كثيرة، ويتيح للناس فرصاً لأعمال لا يستطيعون عملها في النهار حيث النور؛ لا يستطيعون عملها خوفاً أو حياءً، فالخوف من عمل المحرمات والممنوعات، والحياء من عمل المباحات التي يستحيون من عملها والناس يرونهم.
وكم كان الليل فرصة لتنفيذ جرائم متعددة استغل أهلها الظلام لتنفيذ مآرب نفوسهم وظلمهم وعدوانهم، فوقع القتل والزنا واللواط والسرقة والتهريب وترويج المخدرات والأسلحة وبيع ما لا يجوز بيعه.
وذلك أن الظلام والظلم قرينان قلّ أن يفترقا.. ولذلك حرم الإسلام الظلم وجاء القرآن الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ولا يذم الليل والسواد ذماً مطلقاً؛ فقد كان الليل فرصة للمؤمنين لقيام الليل والتقرب إلى الله تعالى بذلك، وكان السواد لباساً ساتراً لعورات الناس وحارساً أميناً لهم من عيون المعتدين وفضول المنافقين وسفه الجاهلين.
غاية الرسالة
ولكن غاية الرسالة المحمدية والقرآن الكريم واضحة جليَّة كما أسلفنا، وكما تقررها الآية الكريمة في بداية سورة إبراهيم قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {1} اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {2}) (إبراهيم).
هكذا أوضح القرآن الكريم، فالغرض من إنزال القرآن الكريم: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فإنقاذ الناس من الظلمات بجميع أشكالها وصورها هدف رئيس ومطلب مهم للإسلام؛ ولا يعد الدين ديناً إذا بقي معتنقوه في صور من الظلمات كبيرها وصغيرها، وهي ظلمات متعددة: منها ظلمات في العقيدة والتوحيد، وظلمات في الشبهات والشهوات، وظلمات في الفكر والسلوك.
لابد للمسلم أن يخرج من الظلمات كلها إلى نور الإسلام الساطع البيِّن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فديننا دين النور ودين الوضوح ودين الصراحة ودين البيِّنة والدليل.
وإذا عرف ذلك تبين لنا أن ادعاء «التنوير» ادعاء كاذب، وبهتان مبين، فما «التنوير»؟ وهل هو من «النور»؟ وإذا كان الأمر كذلك فمرحباً به وهو الدين والقرآن والسُّنة، وهو التقدم والرقي والنهضة والانتصار.
أما إذا كان «التنوير» تقليداً وتبعية لأمم الشرق والغرب، وإذا كان «التنوير» المقصود ثورة على تعاليم القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وإذا كان «التنوير» تمرداً على القيم والأخلاق؛ فإن ذلك رجوع بالأمة ورجوع بالناس إلى الظلمات ونكوص على الأعقاب، ومعارضة صريحة لما جاء القرآن الكريم من أجله؛ وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور.. ليس ذلك تنويراً وليس نقلاً للناس إلى النور، ولكنه – والله – رجعية وتخلف وارتكاس!
ظلمة التبعية
فالتبعية للغير ظلمة، والتقليد الأعمى ظلمة، وفساد التوحيد ظلمة، واتباع الشهوات ظلمة، وشهوات التسلط والغدر والظلم والاحتقار والإثراء الفاحش كل ذلك ظلمات وجهل وتأخر وانهزام.. فأي نصر ترتقبه أمة أو بلد أو حضارة وهي تتقلب في تلك الظلمات؟
وأي تنوير يُدْعى إليه ويُدَّعى حينما تنتهك الأخلاق والقيم وتستباح العقيدة ويسب الخالق سبحانه وتعالى، ويهان الرسول “صلى الله عليه وسلم”.. أي تنوير ذلك؟ ومن ذا الذي يصدق أنّ دعاته دعاة «تنوير»؟!
وما أجمل قول المتنبي في هذه الحال:
وهبني قلت: هذا الصبح ليل أيعمى العالمون عن الضياء؟!
إن النور هو صراط الله العزيز الحميد كما جاء في سورة إبراهيم، والذين يخالفونه مهددون بـ«ويل»؛ (وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {2}).
ما أشد حاجتنا إلى النور وما أحوجنا إلى دعاة «التنوير» الذين يدعون الناس إلى صراط الله المستقيم، ويدعونهم إلى المحافظة على القيم والأخلاق، ويدعونهم إلى البحث والجد والعمل والإنتاج في مجالات لا تنتهك القيم ولا تخالف العقيدة ولا تستهين بشعائر الدين، وذلك هو طريق النهضة، والبعد عن التبعية والذل والهزيمة.
بقي أن نقول: إن عدداً من دعاة ما يسمونه «التنوير» في بعض وسائل الإعلام، يدعون الناس اليوم إلى ما ثبت فشله، وما جنت منه الشعوب ضياعاً وتشتتاً وفساداً، يدعون إلى مناهج طبقها غيرنا ففشلت وعانى منها الملايين.