لا يزال جرح الاجتياح الأخير لمدينة نابلس شمال الضفة الغربية، ينزف دمًا، ولا تزال قصص التضحية والفداء تتوالى كاشفة عن فدائيين باعوا أرواحهم رخيصة فداءً لـ “أسود العرين” وحمايةً للبلاد التي يحبونها وينتمون إليها.
وفي المدينة المحاصرة للأسبوع الثالث على التوالي، يتداول الناس بكل فخر شجاعة الشهيد حمدي شرف (35 عامًا) ودوره منذ الدقائق الأولى في كشف أمر القوات الإسرائيلية الخاصة وهي في طريقها إلى عمق البلدة القديمة، ونجاحه بتنبيه المقاومين لما يجري على الأرض.
الشهيد “حمدي”، الحلاق الأنيق الذي عرفه الناس في صالونه الخاص، “صالون الآغا”، ساقته الأقدار ليكون صوته وهو يصرخ (قوات خاصة.. قوات خاصة) جرسَ إنذار أحبط مخططًا للقضاء على مقاتلي مجموعة “عرين الأسود” المسلحة دفعة واحدة.
والثلاثاء 25 من تشرين أول/ أكتوبر الجاري، اقتحمت قوات خاصة إسرائيلية البلدة القديمة بنابلس بأعداد كبيرة، مستهدفة مقاومي “عرين الأسود”، إلا أن الشهيد “حمدي” استطاع بيقظته أن ينتبه لوجودهم، ويصرخ بصوته في زقاق البلدة القديمة “قوات خاصة.. قوات خاصة”، لتكون تلك الكلمات آخر ما سُمع له.
وتسبب اكتشاف القوات الخاصة باستهداف المقاومين لها واشتباكهم معها وتفجير عبوات كانت مجهزة بالسابق في عدة أماكن داخل البلدة، بحسب شهود عيان، ووفق ما أوردته مجموعة “عرين الأسود” في بيان لها عقب العملية.
أمنية منذ الصغر..
“الجنة منذ الصغر” هكذت كان حلم “حمدي” منذ عشرين عامًا، عندما اقترح على زملائه بالمدرسة في يوم إضراب، تنظيم جنازة رمزية يؤدي هو فيها دور الشهيد، فحمله زملاءه على أكتافهم بمشهد تمثيلي من باب مدرستهم وحتى دوار الشهداء هاتفين: “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”.
مرّ الزمن، وعاد “حمدي” في مشهد حقيقي لدوار الشهداء محمولًا على أكتاف رفاقه وأحبابه شهيدًا، هاتفين “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”، في جنازة شارك بها الآلاف وشاهدها الملايين عبر الفضائيات والمواقع الإخبارية.
عن لحظة الاستشهاد، تخبرنا والدة الشهيد حمدي بما حصل: “في ليلة استشهاده صلى حمدي العشاء بجامع البيك القريب من بيتنا، ثم جاء لزيارتنا وسهر معنا قليلًا، قبل أن يودعنا ويعود إلى بيته”.
وما هي إلا لحظات حتى بدأت الأنباء ترد عن وجود قوات خاصة، تقول “أم حمدي” لـ “وكالة سند للأنباء”: “سمعت أصوات إطلاق الرصاص في محيط منزل العائلة، ومن كثافته لم أستطع النظر من النافذة لمعرفة ما يجري”.
تستجمع بعضًا من قوتها قبل أن تكمل: “استشهد حمدي في الشارع تحت النافذة، ولم أستطع أن أراه (..) رأيته بعدها وهو شهيد، قبّلته وكانت رائحة المسك تفوح منه”.
إلى جانب أمه جلست “هيام” زوجة الشهيد وأثر الصدمة وحرقة الفراق لا تفارق ملامحها، تحدثنا عن آخر اللحظات في حياة حبيبها الراحل: “شعر زوجي بحركة غريبة وكان يقول لنا “شكلهم قوات خاصة”، طلبنا منه ألا يخرج، لكنه أصرّ فخرج برفقة أخي، مؤكدًا أنه عائد بعد قليل إلينا”.
وما هي إلا دقائق حتى ضجّت الحارة بصوت إطلاق الرصاص من كل جانب.
تعلق الكلمات بداخلها، وتحبس دموعها وتواصل الحديث بصوت متحجرج: “سمعت صوت أخي يصرخ ويُنادي حمدي .. حمدي، قلت لأمي هذا صوت محمد ينادي، لا أعرف كيف خرجت من البيت مسرعة لأجد حمدي ملقى على الأرض وأخي محمد ملقى فوقه”.
رأت “هيام” زوجها وقد خرج قلبه من صدره بفعل الإصابة، وكان يلفظ أنفاسه الأخيرة، تتابع والغصة تملأ قلبها: “حاولت أن أعطيه نَفسًا مني لكنه لم يتجاوب”.
في بحر من الدماء غرق “حمدي” وشقيق زوجته، بعد أن كشفا أمر القوات الخاصة ونبّهوا أهل البلد القديمة ومقاتلي “العرين” بذلك، ليعلن بعد ذلك عن استشهاده وإصابة محمد بجراحٍ بليغة.
في لحظات الموت الأولى، يتجنب الجميع نطق الخبر أمام حبيبة الشهيد، في المستشفى تسير “هيام” في الممر، تسأل الطواقم الطبية عن حالة زوجها، لكنهم آثروا إخفاء الحقيقة عنها، فوقع الخبر أقسى من أن يقوى أحد على إعلانه، قالوا لها “حمدي بخير”.
تسرد “هيام” تفاصيل الألم بتلك اللحظات: “نقلوا أخي إلى قسم العمليات، لكن حمدي لم يدخلوه للعمليات، فسألت شقيق حمدي عن السبب، فقال لي: حمدي استشهد.. الحمد لله طلبها ونالها”.
رحل “حمدي”، بعد أن كان يتمنى الشهادة، وقد تحدث عن هذه الأمنية لأخيه، بعد عودتهم من تشييع تشييع الشهيد تامر كيلاني أحد قادة عرين الأسود، الذي استشهد قبل أيام قليلة في عملية اغتيال داخل البلدة القديمة.
وعن ذلك تقول زوجته: “بعد فراق حمدي علمت أنه طلب الشهادة قبل يومين من ارتقائه، دون أن يصارحني بهذه الأمنية”.
الشهيد “حمدي” الأب الحنون لطفلين، كان مصدر الدفء والحنان لأسرته، حتى أنه أمضى آخر يوم له في الدنيا مع زوجته وطفليه في بيتهم على غير عادته، وهو ما أثار انتباهها، وكأنه كان يريد أن لا تنقطع صورته من مخيلتهم.
أما طفله إياد (3 سنوات ونصف)، يحتفظ بقبعة والده الشهيد أملا في عودته ليعطيه إياها، وهو يسأل والدته باستمرار “إيمتى بدو ييجي بابا؟”، سؤال كفيل بأن يدمي قلوب كل من حوله، دون قدرتهم على إجابته.
تكفكف “هيام” دموعها، وتستذكر كلمات زوجها: “كان دائما يوصيني على أولادنا، وأسال الله أن يعينني على تربيتهم كما يحب (…)، حمدي كان كل شيء بحياتي، فكل حياته كانت لنا، حمدي حنون ما بحب يزعّل أحد.. يا رب صبرنا على فراقه”.
البلد وحمدي.. حُب متبادل
حبّ الشهيد “حمدي” لم ينقص يومًا من حبه لبلده، ودائمًا ما يُخبر أهله بهذا الأمر، كما ذكرته لنا زوجته “هيام”.
في بيت عزاء الشهيد، جلست “أم حمدي” التي فُجعت بفقدان فلذة كبدها، لم تجد ما تسلي به نفسها إلا باستذكار مواقفه وخصاله، مرددة: “الله يرحمه ويهنيه بشهادته.. إن شاء الله بنلتقي معه في جنان النعيم”.
تمضي في سرد صفاته:”حمدي الحنون الكريم، جبّار الولايا، كان يحب إكرام الضيف وجبر الخواطر.. حمدي ما في مثله.. كل البلد بتحبه”.
في كل يوم كان “حمدي” يزور والديه ويطمئن عليهم ويتفقد احتياجاتهم، فوالده لا يعمل وهو المعيل لهم.
وبصوت تنخقه العبرات تختم أم الشهيد: “كان دائم السؤال عني، وعن احتياجات بيتنا، يأتي لي بالأشياء دون أن أطلبها منه (..) بعد رحيله منْ لنا؟”.
وزفّت مدينة نابلس الشهيد حمدي شرف، والشهداء علي عنتر وحمدي القيم ومشعل بغدادي، والقائد في عرين الأسود وديع الحوح، بجنازة مهيبة جابت شوارع البلدة القديمة، في حين أصيب خلال الاقتحام أكثر من 20 فلسطينياً بالرصاص الحي.