تشهد العلاقة بين المعلم والتلميذ من آن لآخر جدلاً وخلافاً تربوياً حول آلية التعنيف وضوابطها، والمباح والمحظور فيها.
من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي تستعرض فيه «المجتمع» أبعاد القضية من مختلف الجوانب وآراء المؤيدين والمعارضين، فماذا قالوا؟
في البداية، تقول د. منال يوسف، الأستاذ بكلية التربية- جامعة دمياط: لا شك أن الضرب أو العنف اللفظي قد يكون ضرورياً للتعامل مع بعض الطلاب الذي لا يرتدعون إلا بالعنف والعقاب البدني أو اللفظي، وهذه فئة قليلة عددياً مقارنة بغالبية الطلاب التي يكون الترغيب أكثر تشجيعاً لهم على الجد والاجتهاد من الترهيب، وبالتالي لا يجوز التعميم سواء في الترهيب أو الترغيب.
أسلوب الترغيب أكثر تشجيعاً للطلاب على الجد من الترهيب
وتنتقد د. منال التعنيف المبالغ فيه من جانب المدرسين، وخاصة العقاب البدني لدرجة تصل أحياناً إلى أنه يؤدي للوفاة أو التشويه والإعاقة الجسدية، ومثل هذه الحالات ليست بالقليلة، وخاصة أن بعض المدرسين من القاسية قلوبهم الذين يجعلون الطلاب يكرهون التعليم بالمدارس، والقاعدة التربوية تؤكد أن الطالب إذا أحب المدرس أحب مادته الدراسية، مهما كانت صعوبتها، وإذا كره المدرس كره مادته الدراسية مهما كانت سهولتها.
نتائج عكسية
يتعجب د. محمد خطاب رئيس قسم علم النفس بجامعة عين شمس، من اعتقاد بعض المعلمين أن القسوة والضرب والتوبيخ يزيد من هيبتهم أمام طلابهم، وهذا اعتقاد خاطئ تماماً، بل أنه يؤدي إلى نتيجة عكسية حيث يكره الطلاب المعلم القاسي، وما يشرحه من مادة علمية، وليست مبالغاً إذا قلت: إن هذا العنف والقسوة المفرطة يؤدي إلى التشويه النفسي لشخصية الأطفال، فإما أن يكونوا عدوانيين يسعون إلى الانتقام لتعويض ما تعرضوا له من عنف وإهانة في طفولتهم، أو يكونوا سلبيين يغلب عليهم الخوف والجبن.
وأوضح خطاب أن المدرس القاسي لو تصور نفسه مكان الأب الذي يضرب ابنه بلا رحمة أو رفق، وكذلك المدرسة القاسية لو تصورت نفسها مكان الأم التي يتم ضرب ابنها وتعنيفه بلا رحمة لتغير سلوكهما إلى الأفضل، وإذا كان هناك بعض الطلاب من يحتاج إلى الشدة فإنها ستكون الشدة المغلقة بالرحمة والرفق.
وينبه خطاب إلى أن الدراسات النفسية أكدت أن التخويف المنضبط لمن يستحق في العملية التعليمية يجعل هؤلاء الأطفال أكثر انضباطاً من غيرهم في حالة منع الضرب، أو عدم التخويف المنضبط لأن القاعدة النفسية «من أمن العقاب أساء الأدب»، كما أن من نفوس الأطفال -وهم قلة- من لا يضبطهم سوى العنف اللفظي، فإن لم يرتدع هؤلاء يتم التدرج معهم من النصيحة والتوجيه والإرشاد، ثم العنف اللفظي واستدعاء ولي الأمر، ثم الضرب الخفيف غير المبرح، وبالتالي فإن كل طفل له ظروفه النفسية الخاصة التي على أساسها يجب التعامل بها، وصدق الشاعر يزيد بن مفرع إذ يقول: «العبد يقرع بالعصا.. والحر تكفيه الملامة».
يجب التدرج من النصيحة والتوجيه والإرشاد إلى خيارات أخرى
وفي رواية «تكفيه الإشارة»، ورواية ثالثة «تكفيه المقالة»، وأياً كان الأمر، فإنه لا يجب التعامل مع كل الطلاب على وتيرة واحدة، وإنما لكل تركيبته الشخصية والنفسية التي يجب التعامل معه على أساسه.
مفهوم خاطئ
وتنبه د. منى مدحت، أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى أن المعلم لا بد أن يكون تربوياً، ولديه قدر كبير من الإنسانية، وأن يكون دارساً -مع تخصصه الدقيق- لعلوم النفس والتربية والاجتماع، حتى يكون ناجحاً في أداء رسالته التي هي رسالة الأنبياء التي ورثوا العلم لمن اصطفاهم الله لحمل تلك الرسالة النبيلة.
وتضيف الدراسات الاجتماعية والنفسية أكدت أن «التخويف الرحيم» في العملية التعليمية يجعل الأطفال أكثر انضباطاً واستيعاباً، ولا مانع أن يتم تطبيق مبدأ «العصا لمن عصى»، بمعنى أنه لا مانع من الضرب الأبوي التربوي غير المبرح لردع بعض الطلاب غير الجادين والسيطرة عليهم.
ويشير المستشار شريف إبراهيم إلى الوسطية من أفضل السمات التي يجب أن يتصف بها المعلم في تعامله مع تلاميذه عملاً بالمقولة الخالدة للإمام علي بن أبي طالب: «لا تكن ليّناً فتُعصر ولا صلباً فتُكسر».
الدراسات الاجتماعية والنفسية تنصح باتباع «التخويف الرحيم»
ويوضح أن عقوبة ضرب المعلم للطالب في المدرسة تعد من المواد القانونية المهمة بقانون العقوبات المصري، على سبيل المثال، حيث يتعرض المعلم لعقوبتين رادعتين؛ الأولى «تأديبية»؛ حيث يتعرض للمساءلة التأديبية بتهمة خروجه عن المقتضى الوظيفي، ومخالفته للائحة الانضباط المدرسي الذي أقرته وزارة التربية والتعليم، والعقوبة الثانية «جنائية»، وفقًا للإصابات الواقعة التي لحقت بالطالب فمثلاً الضرب فقط، تكون جنحة عقوبتها الحبس من يوم واحد وحتى 3 سنوات، أما إذا تسبب الضرب في عاهة مستديمة، فهي جناية عقوبتها للسجن المؤبد، أما الضرب المبرح فقط فيتوقف على التقدير الطبي والقضائي للإصابات وقد تصل العقوبة للسجن عشر سنوات.
ضوابط شرعية
عن الضوابط الشرعية للتعنيف في العملية التعليمية، يؤكد د. محمد عبدالدايم الجندي، عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة- جامعة الأزهر، أنه من الأفضل عدم الضرب إلا للضرورة وبضوابط معينة لا تجعل المعلم «جلاداً» لإدمانه الإيذاء البدني، ولكن يجوز للمعلم تهديد الطالب بالعقاب لإنجاز واجباته الدراسية، فالسلاح الأساسي للمعلم الناجح هو الرحمة والرفق، ولا شك أن أطفالنا هم أَوْلَى الناس بالرحمة لضعفهم، وصدق النبي صلى الله عليه حين قال: «لَيْسَ مِنَّا مَن لمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا»، ولم يثبت في السيرة النبوية أنه ضرب طفلًا، وهو القدوة والمثل الأعلى للمعلمين.
وأوضح أن الطفل غير البالغ ليس مكلَّفًا، فالأفضل عدم ضربه، أما التلاميذ البالغون فيجوز الضرب غير المبرح للتعذير بعد تنبيه ولي أمر الطالب بمستواه التعليمي، وأنه يستحق الضرب للتقويم، وثبت في سير الخلفاء والأمراء أنهم كانوا يعطون معلمي أبنائهم الحرية في التأديب والتخويف لأبنائهم ليتعلموا، ووجدوا في هذا فائدة كبيرة لهم، وجاء في «مقدمة» ابن خلدون مقولة لأبي محمد بن أبي يزيد في كتابه عن «المعلِّمين والمتعلِّمين»: لا ينبغي لمؤدِّبي الصبيان أن يَزيدوا في ضربهم على ثلاثة أسواط شيئًا.
وينهي د. عبدالدايم كلامه مؤكداً أن من سلطة ولي الأمر منع الضرب بالمدارس، وتوقيع العقوبة القانونية لمن يضربون طلابهم ضرب السادة للعبيد، وله ذلك شرعًا، ويجب الالتزام به بما يقرره.