أخيراً يتكشف ضمير (الولايات المتحدة) الذي تعلقت به أنظار كثيرة في الشرق, وحسبته شيئاً آخر غير الضمير الإنجليزي والضمير الفرنسي, وسائر الضمائر الأوربية المعروفة
أخيراً يتكشف ضمير (الولايات المتحدة) هذا, فإذا هو – ككل شيء أمريكي آخر – (ضمير أمريكاني)!
ونحن نعرف في مصر (اللعبة الأمريكانية) ونعرف إنها (نصب) في (نصب) وقد حرمت هذه اللعبة لما فيها من غش وخداع. و(الضمير الأمريكاني) الذي تكشف عنه تصريحات ترومان لا يرتفع كثيراً عن هذه اللعبة الممنوعة!
ولقد كان الكثيرون مخدوعين في هذا الضمير؛ لأن الشرق لم يحتك طويلاً بأمريكا، كما احتك بإنجلترا وفرنسا وهولندا، فلما بدأ الاحتكاك في مسألة فلسطين تكشف هذا الخداع عن ذلك الضمير المخول، الذي يقامر بمصائر الشعوب، وبحقوق بني الإنسان، ليشتري بضعة أصوات في الانتخاب.
وكلهم سواء أولئك الغربيون: ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها (الديمقراطية) يؤمن بها المخدوعون!
تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين
فها هي ذي أمريكا تتكشف للجميع. هذا هو (ترومان) يكشف عن (الضمير الأمريكاني) في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن، لا يثق به إلا المخدوعون!
إنهم جميعاً يصدرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير. تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس.
كم ذا اكره أولئك الغربيين وأحتقرهم! كلهم جميعاً بلا استثناء: الإنجليز، الفرنسيين، الهولنديين، وأخيراً الأمريكان الذين كانوا موضع الثقة من الكثيرين.
ولكني لا اكره هؤلاء وحدهم، ولا احتقر هؤلاء وحدهم. إنما اكره واحتقر أولئك المصريين، وأولئك العرب، الذين لا يزالون يثقون بالضمير الغربي عامة، وضمير الاستعمار على وجه الخصوص.
إنها الجريمة. تلك التي يقترفها كل يوم في حق شعوبهم المسكينة. جريمة التخدير والتغفيل، وأنام الأعصاب على الأذى، وهدهدة الآمال الباطلة، والأماني الخادعة؛ في ذلك الضمير المأفون.
يقول نبي الإسلام الكريم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وها نحن نلدغ من الجحر الواحد مرات، ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه مغمضي الأعين نتطلب (الشهد) من جحور الأفاعي. ولا نجرب مرة واحدة أن نحطم هذه الجحور وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور!
إنها الجريمة. تلك التي نعاودها مرة بعد مرة. الجريمة في حق النفس، والجريمة في حق الوطن، والجريمة في حق العقيدة. إنها الغفلة التي لا يستحق صاحبها الاحترام، وهو يشهد على نفسه بالتغفيل!
ولكن من الحق أن لا نصم الشعوب العربية بهذه الوصمة. إن هذه الشعوب لأذكى وأشد حمية من أن ترضى لنفسها بالهوان ولكنها تلك الحفنة من ساسة الجيل الماضي في مصر وبعض البلاد العربية. تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب، لا تقدر على الكفاح، ولا تدع الشعوب تكافح، لأن أنانيتها الأثرة تمسكها عن الانسحاب في الميدان وتركه للقادرين!
هذه الحفنة من ساسة الجيل الماضي هي التي اخترعت كلمات: المفاوضات، والمحادثات، والمؤتمرات. . . لماذا؟ لأنها وسيلة سهلة لا تكلف شيئاً، وتضمن كراسي الحكم والسلطة فترة من الزمان. وكلما همت الشعوب أن تسلك طريقها، وأن تواجه المستعمرين بذاتها، حال هؤلاء بينها وبين المستعمرين، ووقفوا من دونهم يصارعون الشعوب، وتصارعهم الشعوب. فإذا أتعبهم الصراع مع شعوبهم راحوا يبثون في الأمة روح الثقة بالمستعمرين، وراحوا يشيعون الآمال الخادعة في هذا الضمير المدخول!!
تلك هي القصة. قصة الجحور وأفاعي. وقصة اللدغ المتكرر من هذه الجحور. وإنها المأساة، ولكن من العدل أن نبرئ منها الشعوب العربية؛ فلا تؤخذ بجريرة حفنة من الساسة الضعفاء المرضى المتهالكين!
والضمير الأمريكاني!
لقد كان الكثيرون يفهمون أنه شيْ آخر غير الضمير الأوربي. فأراد الله – ولعله لخير هذه الأمة العربية المنكوبة – أن يكشف عن ذلك الضمير. . . إنه ضمير مادي، ضمير الآلة التي لا تحس، وضمير التاجر الذي لا يتورع، ولا يهمه حق، ولا عدل، ولا حياء.
وهل تملك تلك الحضارة الآلية أن تنشيْ إلا ضميراً من هذا القبيل؟
ليست المسألة مسألة جنس ولا دولة. فليس الأمريكان خيراً من الإنجليز، وليس الإنجليز خيراً من الفرنسيين، وليس الفرنسيون خيراً من الهولنديين. . . كلهم أبناء حضارة واحدة. حضارة مادية بغيضة لا قلب لها ولا ضمير. حضارة تأخذ ولا تعطي، وتجرح ولا تأسو. حضارة أنانية صغيرة مهما بدت من الخارج ضخمة ذات بريق وضجيج!
إنها حضارة زائفة لأنها لم تقدم للإنسانية زاداً من الروحية، ولم تحاول رفع الآدمية عن قانون الوحوش. وهل تطبق هذه الحضارة مع شعوب الأرض المنكوبة إلا قانون الوحوش؟
ثم يوجد بين أمم الشرق غافلون أو خادعون يثقون بأصحاب هذه الحضارة، ويراودون شعوبهم على الثقة بلك الضمير، ويثبطون عزائمهم عن الجهاد الحاسم، والكفاح المثمر، في أنسب الظروف!
وبين ضجيج الآلات يرتفع بين آن وآخر صوت إنساني خافت في تلك الربوع: ينادي بالعودة إلى الله، كذلك الصوت الذي أرسله الكردينال جريفان في إنجلترا منذ أيام، حين ألقى بكاتدرائية وستمنستر عظة دينية فقال:
(لقد أبعد الله عن ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وهذا هو السبب في أن الأمم المتحدة لم تستطع إلى اليوم أن تصبح (متحدة) فعلاً).
(وأنه لينبغي أن يكون لله ومبادئه القائمة على الإحسان والعدالة مكان في الشئون الدولية حتى تصبح الحرية حقيقة في العالم بأسره ويعيش الإنسان في ظل السلام والأمن).
ولكنه صوت خافت لا يسمع في ضجيج الآلات التي تغشى على صوت الضمير، ونغمة مبحوحة لا تسمع بين صراخ المطامع، وعواء الشهوات، في ذلك العالم الهائج الشعور!
والآن. أيها الشرق. ماذا تريد؟
فأما إن كنت تبغي الخلاص من براثن الوحش الغربي. فهناك طريق واحد لا تتشعب في المسالك. فهو أقرب طريق. . . اعرف نفسك، وراجع قواك، واستعد للصراع، وابدأ في الكفاح ولا تستمع إلى صوت خادع يوسوس لك بالثقة في ضمير الغرب المدخول.
وأما إذا كنت تبغي الراحة مع ذلك الجيل المكدود المهدود من الساسة المترفين الناعمين، فأمامك طرق كثيرة ذات شعب ومسالك، وذات منعرجات ودروب. هناك المفاوضة، والمحادثة، وجس النبض، واستطلاع الآراء. وهناك الديبلوماسية الناعمة الرقيقة، والكلمات الرفيقة الظريفة، وهناك الانتظار الذي لا ينتهي، والاستجداء الذي لا ينبغي. وهناك المؤتمرات الحافلة والموائد المستديرة، وهناك الكتب البيض، والكتب الزرق، والكتب الخضر، وما لا ينتهي من الطرق والمنعرجات والدروب!
والحمد لله – أيها الشرق – لقد تكشف لك القناع عن آخر ضمير (الضمير الأمريكاني) الذي كانت تتعلق به الأنظار، أنظار الغافلين والخادعين!!!
والحمد لله – أيها الشرق – إن شمسك الجديدة في شرق، وشمس هذا الغرب الفاجر في غروب. وإنك تملك من الرصيد الروحي، ومن ميراثك القديم، ما لا يملكه هذا الغرب المتطاحن الذي يأكل بعضه بعضاً كالوحوش لأنه يحكم قانون الغابة فيما يشجر بينه من شقاق لا ينتهي، وهل ينتهي الشقاق في الغابة بين الوحوش.
إنها الفرصة السانحة – أيها الشرق – للخلاص. فانفض عنك رجال الماضي الضعفاء المنهوكين. وابرز بنفسك للميدان، فقضايا الشعوب في هذه الأيام لابد أن تعالجها الشعوب.
وما قضية فلسطين إلا قضية كل شعب عربي، بل كل شعب شرقي. إنها الصراع بين الشرق الناهض، والغرب المتوحش.
____________
من كتاب «أيها العرب.. استيقظوا واحذروا»