لم يكن العنف الاستعماري مجرد فعل عسكري، بل كان مبرراً أيديولوجياً يتم استخدامه باسم العلمانية لنزع الإنسانية عن الشعوب المستعمرة وتبرير الظلم والقسوة تجاهها، ولقد كانت الأسطورة التي تتهم الدين بالعنف وسيلة لتبرير العنف الاستعماري «العقلاني»، كما يصفه المستعمرون، بينما يُظهر التاريخ أن هذا العنف كان متجذراً في سياسات وممارسات استعمارية علمانية.
وتعود بداية نشأت العلمانية مع الثورة الفرنسية ضد لويس السادس عشر وسلطة الكنيسة الكاثوليكية عام 1789م، حيث ظهرت العلمانية لأول مرة وتمت صياغة أول دستور مدني، وعرفت بأنها مبدأ ومنهج فكري يرى أن التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي وليس دينياً، كما تم الترويج لها بشكل شائع على أنها فصل الدين عن شؤون الدولة.
العلمانية.. وشيطنة الآخر
في 5 يونيو 2020م، أعادت فرنسا إلى الجزائر 27 جمجمة بشرية تعود لرفات شهداء المقاومة الشعبية الجزائرية الذين قتلوا على يد القوات الفرنسية خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر، وبقيت 12 جمجمة أخرى لا تزال في صالات العرض في متحف الإنسان بباريس، وهو المتحف الذي أنشأه عالم الأعراق الفرنسي بول ريفيه عام 1937م ليكون مركزًا بحثيًا، وأصبح شاهدًا على أكبر جريمة استعمارية في التاريخ الحديث، في هذا المتحف، يمكن للزوار رؤية جمجمة سليمان الحلبي، وقد كتب تحت عظامه كلمة «مجرم»، ليس لأنه قتل كليبر، خليفة نابليون على جيش الشرق في مصر، بل لأن هذه النظرة تُشيطن المقاومة وتجعل من المدافعين عن أراضيهم «مجرمين» في أعين المحتل.
وهذا التوجه الاستعماري يتجلى بوضوح في تصرفات المستوطنين اليهود تجاه الفلسطينيين، حيث تتعامل الحكومة الصهيونية مع الفلسطينيين كأنهم «ليسوا بشراً»؛ مما يسهل تهميشهم وانتهاك حقوقهم، ومثل هذا التصرف يُحاكي ما وصفه نعوم تشومسكي بأن العالم الغربي يقسم الناس إلى «بشر» و«لا بشر»، بحيث يكون هناك من يستحقون الحقوق الإنسانية وهناك من يُعتبرون أقل شأنًا.
إن الأساطير التي تروجها الدول الاستعمارية حول عنف الآخر وخطورته تؤدي دورًا حاسمًا في تبرير العنف ضد الشعوب المستعمَرة، وكما يوضح ويليام كافانو في كتابه «عن أسطورة العنف الديني»، فإن هذه الأساطير تساعد في تبرير العنف العلماني للدولة ضد المجتمعات المتدينة، وهذه الأساطير تقدم مبررًا نظريًا لقتل الأبرياء، وتحولهم إلى شرير يجب قتله، أو عدو يجب تدميره؛ مما يساعد في إزالة الموانع الإنسانية والأخلاقية التي تمنع الجنود من ارتكاب الجرائم.
العلمانية.. والعنف الاستعماري
هناك دلائل متعددة تشير إلى أن العلمانية كانت مسؤولة عن جرائم الإبادة والعنف على مر العصور والأزمنة، منها:
1- استعمار الجزائر:
القارئ للتاريخ يرى أمثلة مروعة على كيف تم استخدام العلمانية لتبرير العنف الاستعماري، وخاصة في حالة الاستعمار الفرنسي للجزائر، فقد ادَّعى المستعمرون الفرنسيون أنهم يحملون مشعل الحضارة والعقلانية لإخفاء نواياهم الاستغلالية الوحشية، ومن حيل المستعمر في هذا الشأن:
– الادعاء بالرسالة الحضارية: برّر الفرنسيون احتلالهم للجزائر بادّعاء أنهم يحملون رسالة نشر الحضارة والتقدم لشعوب متخلفة، وتم استخدام هذا الخطاب لتبرير نهب الموارد الطبيعية للجزائر، وقمع ثقافتها، وإخضاع شعبها لحكم استبدادي.
– استخدام العنف المفرط: مارس المستعمرون الفرنسيون القمع الوحشي ضد الجزائريين لإخضاعهم ولكسر مقاومتهم، وتضمنت هذه الممارسات التعذيب والتنكيل والمجازر الجماعية، وكانت أحد الأمثلة البارزة على ذلك مذبحة سطيف في عام 1945م، حيث قُتل آلاف الجزائريين العزل على يد القوات الفرنسية.
– التفرقة العنصرية: اعتبر المستعمرون الفرنسيون أنفسهم متفوقين على الجزائريين من الناحية العرقية والثقافية، ونُفذت سياسات تفرقة عنصرية فصلت الجزائريين عن المستوطنين الفرنسيين في مجالات التعليم والسكن والوظائف؛ مما ساهم في خلق شعور عميق بالظلم والاستياء لدى الجزائريين.
– تدمير الثقافة: سعى المستعمرون الفرنسيون لتدمير الثقافة الجزائرية ولفرض ثقافتهم ولغتهم على السكان المحليين، وتم حظر اللغة العربية وتعرضت المدارس الجزائرية للفرنسة، كما تم تدمير العديد من المعالم الثقافية الجزائرية.
2- استعمار أمريكا:
المتمعن في التاريخ أيضًا يجد أدلة دامغة على كيف تم استخدام العلمانية لتبرير العنف الاستعماري في سياق استعمار أمريكا الشمالية من قبل الأوروبيين، حيث ادَّعى المستعمرون الأوروبيون أنهم يتمتعون بحق الإله في احتلال الأراضي التي يقطنها السكان الأصليون من الهنود الحمر ونشر الحضارة المسيحية، ومن أشهر الأساليب التي أوردتها كتب التاريخ في هذا الشأن:
– ادعاء الأرض الموعودة: اعتقد العديد من المستعمرين الأوروبيين أن الله قد وعدهم بأرض أمريكا الشمالية، وأنهم مُقدّرون لاحتلالها ونشر المسيحية بين سكانها الأصليين، وتم استخدام هذا الادعاء الديني لتبرير طرد السكان الأصليين من أراضيهم وحتى قتلهم.
– الحرب المقدسة: نظر المستعمرون الأوروبيون إلى حربهم ضد السكان الأصليين على أنها حرب مقدسة يقاتلون فيها باسم الله، وتم استخدام هذا المفهوم لتبرير العنف الوحشي ضد السكان الأصليين وإخضاعهم بالقوة.
– الأمراض كأسلحة بيولوجية: استخدم المستعمرون الأوروبيون الأمراض المعدية مثل الجدري كأسلحة بيولوجية ضد السكان الأصليين، وأسفر ذلك عن موت ملايين السكان الأصليين، وساهم بشكل كبير في تسهيل احتلال الأوروبيين لأراضيهم.
– العبودية: استعبد المستعمرون الأوروبيون العديد من السكان الأصليين واستخدموهم كعمالة رخيصة في مزارعهم ومناجمهم، وتم تبرير هذه الممارسة باعتبارها ضرورية لنشر الحضارة والمسيحية.
3- استعمار أفريقيا:
تم استخدام العلمانية أيضًا لتبرير ممارسات قمعية واستعمارية، لاستعمار العديد من الدول الأفريقية من قبل الدول الأوروبية، مستخدمين لذلك:
– ادعاء التفوق الحضاري: اعتقد المستعمرون الأوروبيون أنهم متفوقون حضاريًا على الأفارقة، وأنهم مُلزمون بنشر الحضارة في أفريقيا، واعتبروا أنفسهم حاملين لِرسالة تمدين الشعوب البدائية في القارة.
– استخدام الدين: وبالرغم من أن أساس العلمانية إلغاء الدين، فإن الاستعمار العلماني استغل الدين في أفريقيا، حيث ادعى المستعمرون أنهم ينشرون المسيحية، وأنهم يحضّرون الشعوب الأفريقية، واتخذوا من مسيحيتهم ذريعة لِممارسة العنف ضد من يختلفون معهم دينيًا، وفرض معتقداتهم بالقوة.
– استغلال العلم: كما تم استخدام العلم لتبرير استعمار أفريقيا، حيث ادعى المستعمرون أنهم يقومون بمهمة علمية لتطوير القارة، واعتبروا أنفسهم روادًا للتنوير، وأنهم يحضرون العلم والمعرفة إلى الشعوب الأفريقية البربرية.
سقوط الأقنعة
ولا شك أن العلمانية أدت دورًا حاسمًا في إنقاذ أوروبا من سطوة الكنيسة، والحكم باسم الحق الإلهي، ولكن سرعان ما اختطفت أنظمة الحكم في هذه البلاد مفاهيم العدل والمساواة وأحالتها إلى الحكم باسم التطوير والتحديث لشعوب العالم الثالث، وبدلًا من حكم الكنيسة بالحق الإلهي جاءت جيوش أوروبا لتحكمنا باسم حق التطوير والتحديث، وهو ما أنتج تدميرًا لكل مستقبل شعوبنا في التقدم والتحضر بعد أن سلبت كل ثرواتنا الطبيعية، وسرقت عقول أبناء العالم الثالث للمساهمة في تطوير الحداثة الغربية، وقامت بزرع الفتن والانقسامات والصراعات الأهلية داخل شعوبنا، وقتلت مئات الملايين من شعوب العالم الثالث باسم العلمانية، وهي الآن تزرع في كل دولة من دول العالم الثالث وحدات استعمارية تحت قناع العلمانية ومبادئها السامية مما يجعل التحدي كبيرًا أمام المثقفين لشرح مفاهيم العلمانية وحدود استخدامها، ومقارنتها بما أنتجه العالم الإسلامي وفقًا لمفاهيمه الإسلامية التي كانت تسود العالم قبل ثورة أوروبا ورفع شعار العلمانية.
لقد نجحت الدول الغربية لقرون في خداع شعوب العالم من خلال ربط مفهوم العلمانية بالتقدم والحداثة، حيث روجت للعلمانية كمنقذ من براثن الظلام والتخلف، كطريقٍ مُمهدٍ نحو الرخاء والعدالة، لكن سرعان ما سقطت الأقنعة، وكشفت النوايا الحقيقية لهذه الدول التي استغلت العلمانية كأداةٍ لتبرير ممارساتٍ قمعيةٍ واستعماريةٍ بغيضة.