لا يمكن إغفال دور المنابر بتنوعاتها، سواء في المساجد، أو عبر وسائل الإعلام والتواصل، في شحذ الهمم، وتجييش المقاومين، وصناعة ملحمة الصمود في معركة «طوفان الأقصى» للعام الثاني على التوالي، ومن قبلها حرب أكتوبر، ومعركة «عين جالوت»، وغير ذلك من بطولات وأمجاد الأمة الإسلامية عبر تاريخها التليد.
«المجتمع» تعقبت دور المنابر في تاريخ الأمة، بداية من خطبة جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي ملك الحبشة، في وجود عمرو بن العاص، قائد وفد قريش الذي جاء للتحريض عليهم وأخذهم أسرى إن استطاع، وهذا العز بن عبدالسلام الذي وقف إلى جانب سيف الدين قطز لقهر المغول في «عين جالوت»، والعلَّامة عبدالله بن ياسين الجزولي، الذي أدى دوراً في تأسيس دولة المرابطين بالمغرب التي حاربت الوثنيين، وبعض الخوارج على الإسلام حتى استشهد خلال قتالهم عام 1059م.
يقول د. سيف قزامل، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون بطنطا– جامعة الأزهر، خلال حديثه لـ«المجتمع»: إن دور علماء الإسلام في الحروب لا يقل عن المقاتلين الذين يحملون السلاح، بل إنه يفوقهم في بعض الأحيان؛ لأن دورهم الحقيقي شحذ روح الجهاد في نفوسهم قبيل المعركة وخلالها لتحقيق النصر أو الشهادة، لقوله سبحانه: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60)، فإن انتهى القتال بالنصر يكون دورهم تهيئة القادة السياسيين والعسكريين للسلام من منطلق القوة التي تحمي الحق، لقوله سبحانه: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال: 61).
وضرب قزامل أمثلة لما قام به علماء الأزهر الشريف خلال حرب أكتوبر 1937م، ابتداء من شيخ الأزهر د. عبدالحليم محمود الذي قام بتجييش بعض أساتذة جامعة الأزهر وكبار الدعاة للقيام بالتعبئة المعنوية للجنود خلال حرب الاستنزاف، ومع بداية الحرب صعد على منبر الأزهر وألقى خطبة نارية تؤكد أن حربنا مع الصهاينة حرب دينية وجودية في سبيل الله، ومن يتقاعس فهو منافق.
إمام الدعاة
ويشير د. محمد عبدالدايم الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، في حديثه لـ«المجتمع»، إلى أن إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي سبق أن سجد لله شكراً عقب هزيمة 1967م، مبرراً ذلك بأن الناس كانت مفتونة بالشيوعية المعادية للأديان ولو انتصرت لزادت فتنة عامة الناس في دينهم، إلا أنه ساهم في إحياء الروح المعنوية للجنود قبيل وأثناء حرب أكتوبر حيث استعان بهم الجيش لغرس روح الفداء والتضحية في سبيل الله، وأن النصر بقوة الإيمان قبل السلاح، وأن المسلمين عبر التاريخ ابتداء من غزوة «بدر» وحتى الآن لم ينصروا إلا بقوة إيمانهم قبل عتادهم.
وأضاف أن علماء الأزهر كانوا على الجبهة مع الجنود يبيتون معهم، بل وبعضهم حمل السلاح معهم رغم تقدمه في السن، وتم تسجيل لقاءات كثيرة للشعراوي مع القادة والجنود على الجبهة بسيناء، وكان مما قاله: «أنا ومهمتي وأنتم ومهمتكم، نلتقي في أننا جميعًا جنود الحق، أنا بالحرف وأنتم بالسيف، وأنا بالكتاب وأنتم بالكتائب، وأنا باللسان وأنتم بالسنان».
أدوار رائدة
ويثمن د. سعد بدير، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، دور دول الخليج والدول العربية في نصر أكتوبر، وكان ذلك على يد الدعاة، مشيراً إلى أن من الفتوحات الربانية لعلماء الأزهر ما اقترحه الشيخ حسن مأمون، شيخ الأزهر الأسبق بمنع تصدير البترول لأنصار العدو الصهيوني، ومن كلماته لحكام وشعوب الأمة التي سجلها التاريخ: «أيها المسلمون، إن مصر لا تحارب «إسرائيل» وحدها، إنها تكافح العدوان الموتور، الممثل في أمريكا وبريطانيا، وإني باسم علماء الأزهر الشريف والمصريين عامة أناشدكم أن توقفوا تصدير البترول إلى دول الغرب، حتى يتحقق النصر وتشاركوا معنا في ردع هذا العدوان الغاشم على إخوتكم في مصر».
وأوضح أن الشيخ مأمون لم يكتف بذلك، بل وجه نداء قبل الحرب للسنوسي، ملك ليبيا، بالقضاء على القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية في بلاده، واصفاً إياها بأنها «خنجر مصوب إلى ظهر مصر المجاهدة المستبسلة».
وكذلك الشيخ محمد الفحام الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1969م، كان، رغم تقدمه في السن وظروفه الصحية، يردد دائماً أنه يعتبر نفسه جندياً مجاهداً في سبيل الله، وقام خلال حرب الاستنزاف بزيارات عديدة مع كبار الدعاة لجبهة القتال، واستمر في الشحذ المعنوي لأبطال الجيش، وبعد النصر قام بعبور القناة والصلاة في أرض سيناء المباركة، وكان بصحبته كبار الدعاة ومنهم الشيخ محمد الذهبي، وكذلك كان الشيخ إسماعيل صادق العدوي، مع مجموعة من علماء الأوقاف متواجدين وسط الجنود لتقوية الإيمان ورفع الروح المعنوية.
وأكد أن الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي أدى دوراً كبيراً في الإعداد المعنوي للحرب والحث على تماسك الجبهة الداخلية ممثلة في قوة الوحدة الوطنية بين عنصري هذه الأمة من مسلمين ومسيحيين، كما قام أئمة المساجد بجمع التبرعات المادية والعينية وشاركوا في اللجان الشعبية والمقاومة الشعبية والدعوة للتطوع وأبرزهم الشيخ حافظ سلامة الذي قاد المقاومة الشعبية في السويس، وهو ما يتكرر الآن في حرب غزة، من دور للدعاة والأئمة في رص الصفوف وراء المقاومة بالدعاء والتبرع والمقاطعة والدعم بكل صوره المتاحة، حتى دحر الصهاينة المحتلين واسترداد المسجد الأقصى من بين أيديهم.