على مدى 8 أشهر من الفشل في تشكيل حكومة عراقية جديدة، ظل المشهد السياسي متأرجحا بين استقرار نسبي وتخوف من دخول حرب أهلية قد تقود البلاد إلى فوضى خارج سيطرة القوى المحلية أو الخارجية.
والتطور الأبرز الذي قاد إلى مشهد التصعيد هو إعلان رئيس “التيار الصدري” مقتدى الصدر استقالة نوابه الـ 73 من مجلس النواب في يونيو الماضي، وإعلان “الإطار التنسيقي” في 27 يوليو تسمية محمد شياع السوداني لرئاسة مجلس الوزراء، واختيار يوم 30 يوليو موعدا لعقد مجلس النواب جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، وهي خطوة لتكليف مرشح الإطار من قبل الرئيس بتشكيل الحكومة الجديدة.
استدعى ذلك لجوء الصدر إلى خيار تجييش الشارع واقتحام المنطقة الخضراء والاعتصام داخل مبنى مجلس النواب لمنع منافسيه في “الإطار التنسيقي” من تشكيل الحكومة الجديدة عبر تعطيل جلسات المجلس.
ظل الأداء السياسي “للتيار الصدري” طوال الشهور العشرة الماضية محكوما برؤى رئيسه ومواقفه التي يغلب عليها طابع “التقلب” وعدم الثبات وعدم توقع الخطوة أو القرار التالي سواء من خصومه في “الإطار التنسيقي” أو من حلفائه في تحالف “إنقاذ وطن” الذي كان يضم أحزابا عربية سنية وأخرى كردية.
الصدر الذي يملك قدرة غير مسبوقة على تحريك أتباعه وتجييش الشارع، يعد اليوم الشخصية الأكثر إثارة للجدل التي تمتلك ما يكفي من الإمكانيات للعب دور مؤثر في المسار السياسي.
ويمتلك “التيار الصدري” القاعدة الجماهيرية الأعرض من بين القوى السياسية الشيعية الأخرى، وتمتاز هذه القاعدة بالطاعة “العمياء” والتبعية المطلقة لتوجيهات رئيس التيار.
وإلى جانب القاعدة الجماهيرية العريضة لرئيس “التيار الصدري”، وقدرته على التحكم بحراك قطاع واسع من أتباعه ومؤيديه وأنصاره، وجناحه المسلح المتمثل بـ”سرايا السلام” إضافة إلى شبكة واسعة من المكاتب والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في معظم مدن ومحافظات العراق، بما فيها بعض المحافظات السُنيّة.
واجتذب خطاب رئيس “التيار الصدري” فئات مهمة من المجتمع العراقي تؤمن بالتغيير الجذري والإصلاح وعدم التبعية لسياسات الدول الأخرى، إيران تحديدا.
وتبنى الصدر برنامجاً إصلاحياً يركز على مكافحة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة من خلال تشكيل حكومة “وحدة وطنية” تُمثل الأغلبية الفائزة في الانتخابات والكتل السياسية المتحالفة معها ضمن تحالف “إنقاذ وطن” الذي كان قبل تفككه في يونيو 2022 إثر استقالة الكتلة الصدرية، يضم إلى جانب هذه الكتلة، الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البارزاني، و”تحالف السيادة” برئاسة رجل الأعمال خميس الخنجر الذي يعد حزب “تقدم” برئاسة محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب أبرز مكوناته.
لكن الصدر من الناحية العملية، لم يحقق أي نجاحات تذكر في تحقيق أهدافه التي أعلنها بعد الانتخابات الأخيرة في إعادة صياغة العملية السياسية بعيدا عن المحاصصات المعمول بها منذ عام 2006 وحصر السلاح بيد الدولة وتعديل الدستور ومكافحة الفساد ورفض التبعية للخارج وقضايا أخرى.
ثمة من يرى أن إعلان الصدر اعتزال العمل السياسي وعدم التدخل في الشأن السياسي جاء استجابة لطلب ضمني من مرجعه المقيم في مدينة قم الإيرانية، كاظم الحائري الذي أشار ضمنا إلى أن الصدر يفتقر إلى “الأعلمية والأهلية في الاجتهاد” أي الأهلية في استنباط الأحكام الشرعية والفقهية.
وأصدر المرجع الحائري (84 عاما) بيانا في 29 أغسطس أعلن فيه اعتزاله أي نشاطات تتعلق بالمرجعية لأسباب تتعلق بصحته البدنية، فيما أوصى مقلديه باتباع مرجعية المرشد الأعلى علي خامنئي بصفته “الأجدر والأكفأ على قيادة الأمة“.
كانت اتجاهات الرأي العام لدى أتباع “التيار الصدري” تدعو إلى إسقاط المنطقة الخضراء وسط العاصمة بغداد بقوة السلاح وبالتالي الإعلان عن إسقاط النظام السياسي القائم.
ويمكن القول إن إعلان الصدر اعتزال العمل السياسي أعطى الضوء الأخضر لأتباعه للتحرك المسلح تجاه المنطقة الخضراء، مركز الحكم.
وشملت نشاطات “التيار الصدري” المسلحة العاصمة بغداد في أحياء عدة منها والمنطقة الخضراء ومحيطها، إضافة إلى معظم محافظات وسط العراق وجنوبه حيث سجلت وسائل إعلام محلية حالات اقتحام للقصر الجمهوري وقصر الحكومة في المنطقة الخضراء ومؤسسات رسمية أخرى، إضافة إلى حالات حرق وتدمير وهجمات على عشرات مكاتب الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة ضمن مظلة “الإطار التنسيقي” المقرب من إيران.
لكن دخول مئات المسلحين من سرايا السلام بعد أقل من ساعة على إعلان الصدر الاعتزال ظهر الإثنين 29 أغسطس، واشتباكهم نحو 24 ساعة داخل المنطقة وفي محيطها دون تحقيق أي إنجازات عسكرية، وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى دعا الصدر إلى التدخل عبر عقد مؤتمر صحفي وجّه فيه أتباعه بالانسحاب من المنطقة الخضراء.
كانت استجابة أتباع الصدر المتوقعة، قد أنهت حالة من الحذر والترقب لاحتمالات انزلاق الأوضاع إلى حرب أهلية قد تكون خارج سيطرة القوى الفاعلة في الملف العراقي سواء المحلية أو الخارجية.
ويعتقد أن القاعدة الجماهيرية لأتباع التيار الصدري والأجنحة المسلحة التابعة لرئيسه قادرة معا على إدخال بغداد ومدن وسط وجنوب العراق في فوضى أمنية قد تُخرِج العاصمة والمدن الأخرى عن سيطرة القوات الأمنية، واحتمالات تقويض العملية السياسية القائمة منذ عام 2003.
في مقابل ذلك، فإن قوى “الإطار التنسيقي” وخلال محاولاتها الأخيرة للحشد الجماهيري المضاد في مقتربات المنطقة الخضراء وتنظيم اعتصامات مماثلة لاعتصام “التيار الصدري” داخل المنطقة الخضراء، أثبتت ضعفا في القدرة على حشد الجماهير لأسباب قد يكون منها أن معظم قادة الإطار يمتلكون أجنحة مسلحة تتحكم بالكثير من موارد الدولة.
وإضافة إلى ذلك قد يكون من بين الأسباب أن معظم قادة “الإطار التنسيقي” هم جزء أصيل من منظومة الفساد التي تعاني منها قطاعات الشعب العراقي عموما، إلى جانب ما بات معروفا لدى العراقيين من تبعية معظم أو جميع قوى الإطار لإيران.
لا يمكن اعتبار إعلان الصدر اعتزال العمل السياسي نهائيا، هو انسحابا من المشهد السياسي والتدخل فيه والتأثير عليه.
ومن المتوقع، وقياسا على تجارب انسحاب سابقة، فإن الصدر سيتوارى عن واجهة الإعلام والشأن العام، لكنه سيحكم قبضته على توجيه أتباعه عبر الحلقة الضيقة المقربة منه لتنظيم نشاطاتهم سواء المدنية أو العسكرية حيث استثنى على سبيل المثال تعطيل نشاطات “سرايا السلام” أو إغلاق مكاتبها.
ومن المتوقع أن يكون إعلان الصدر انتهاء “الحرب الأهلية” التي شنها أتباعه، بوابة عبور إلى إعلان إلغاء تعليق مجلس النواب عقد جلساته وتوافق الأطراف الكردية على مرشح لرئاسة الجمهورية، وبالتالي مضي قوى “الإطار التنسيقي” بتشكيل حكومة يرأسها مرشحها محمد شياع السوداني، أو مرشح آخر، قد تستجيب لرغبات “التيار الصدري” التي باتت تتبناها معظم القوى السياسية بالدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد تعديل قانون الانتخابات وما يتعلق بالمفوضية المستقلة للانتخابات.
لكن أي حكومة يشكلها “الإطار التنسيقي” حليف طهران، ستظل مثار شك وعدم ارتياح من الكتل السياسية العربية السُنيّة الرئيسة وبعض الكتل الكردية نتيجة التدخلات الإيرانية المحتملة في سياسات العراق وقراراته، ما يجعل هذه الكتل تقدم بعض التنازلات لقوى الإطار في سبيل ضمان إشراكها في الحكومة الجديدة مقابل حصولها على مكاسب سياسية.