مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهد النصف الثاني من القرن العشرين زوال الاستعمار من بلاد المسلمين، وظهرت الحاجة إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي فضلاً عن السياسي، وتطوير الاقتصاد بما ينسجم مع التعاليم الإسلامية؛ وهو ما أدى إلى ظهور مصطلح «الاقتصاد الإسلامي»، وكشف النقاب عن المنهج الاقتصادي الإسلامي لإقامة نظام اقتصادي يجمع بين فقه النص وواقع العصر، للخروج من نفق التبعية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد تبنى هذا الفكر إسلاميون مخلصون، وعدد محدود من أنظمة الحكم، التي انخدعت في مجملها بالرأسمالية تارة وبالاشتراكية تارة أخرى، وبالترقيع بينهما تارة ثالثة، حتى ارتبطت بالاستعمار فكرياً بعد زواله عسكرياً، وبقي الجانب الفكري له أذنابه ممن رضعوا لبنه وانفطموا عليه.
لم تنقطع اجتهادات المفكرين الاقتصاديين الإسلاميين في تحليل مشكلات مجتمعاتهم وعرض أنواع العلاج الملائمة لها في إطار المنهج الاقتصادي الإسلامي، وهكذا تطور الفكر الاقتصادي الإسلامي الحديث، وظهرت مساهمات عديدة عن خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي في مجالات النقود والربا والبنوك الإسلامية والزكاة والضرائب والقيمة الاقتصادية والتضخم وكيفية تحقيق الاستقرار النقدي، وكذلك في مجال التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية.
الجهود الفردية والمؤسسية
وقد تمثلت تلك المساهمات في كتابات فردية لعلماء في الفقه والاقتصاد، فضلاً عن قوة الدفع الحقيقية للاقتصاد الإسلامي التي تمثلت في العديد من المؤتمرات والندوات العالمية التي أُقيمت على نحو شبه مستمر ومتواصل، وفي مقدمتها المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، الذي عقدته جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة في فبراير 1976م، كما كان للمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة دور كبير في إقامة وإنجاح العديد من الندوات والمؤتمرات، وكذلك مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر بمصر، فضلاً عن دور المجامع الفقهية في تعضيد الفقه التنظيري والميداني للاقتصاد الإسلامي، وفي مقدمتها المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة.
كما لقي الاقتصاد الإسلامي أيضاً دفعة كبيرة في الجانب المؤسسي من خلال التعليم الجامعي أو الدراسات العليا في العديد من الجامعات بالدول الإسلامية؛ كجامعة أم القرى، وجامعة الإمام بالمملكة العربية السعودية، وجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، والمعهد العالي للاقتصاد الإسلامي في إسلام آباد بباكستان، والجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وجامعة الأزهر وجامعة الإسكندرية بمصر، وجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة الأوزاعي في لبنان.
ولم يقتصر الأمر على الجامعات بالدول الإسلامية، بل تعداه للجامعات ومراكز الأبحاث بالدول الغربية، فعلى سبيل المثال فإن جامعة هارفارد Harvard في الولايات المتحدة لها اهتمامات – منذ فترة ليست بالقصيرة – على مستوى الملتقيات الدورية، ولديها قاعدة بيانات عن البحوث في مجال الاقتصاد الإسلامي، كما تعد بريطانيا من الدول المتقدمة في هذا المجال عبر البرنامج الأكاديمي للماجستير والدكتوراه الذي تقدمه جامعات: درم Durham، ولافبرا Loughborough، ودندي Dundee، ونيوكاسل Newcastle، وريدنج Reading، وبانقور Bangor، وهناك أيضاً معهد المصرفية الإسلامية والتأمين في لندن IIBI، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدةIIIT، كما يوجد برنامج للماجستير في المالية الإسلامية في جامعة باريس دوفن Paris–Dauphine University في فرنسا، وجامعة لاتروب La Trobe في أستراليا.
كما ظهر الجانب المؤسسي أيضاً من خلال المؤسسات المالية الإسلامية وفي مقدمتها المصارف الإسلامية، بالإضافة إلى عدد آخر ليس قليلاً من البنوك التجارية التي عملت على تنويع نشاطها بفتح نوافذ مصرفية إسلامية أو التي اتخذت خطوات فعلية للتحول إلى العمل المصرفي الإسلامي، فضلاً عن شركات التأمين التكافلي، وشركات التمويل والاستثمار الإسلامي، وقد شهدت تلك المؤسسات نمواً ملحوظاً؛ حيث بلغ عددها حالياً في جميع أنحاء العالم ١١٤٣ شركة، حصة البنوك الإسلامية منها نسبة ٣٨%، وشركات التأمين التكافلي نسبة ٢٧%، وشركات التمويل والاستثمار الإسلامي نسبة ٣٥%.
وعلى مستوى نظم الحكم، عمدت بعض الدول إلى تحويل نظامها الاقتصادي إلى النظام الإسلامي كباكستان والسودان وإيران، وإن لم يخلُ التطبيق العملي من العديد من السلبيات.
وقد ساهم في الاهتمام بإقامة الاقتصاد الإسلامي فكراً وتطبيقاً فشل النظام الاشتراكي – بعد أن انخدعت بعض الدول الإسلامية به حتى تم انهياره بزوال الاتحاد السوفييتي مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي – وكذلك النظام الرأسمالي الذي ظهرت خرافة الحرية الاقتصادية التي ينادي بها بعد الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في العام 2008م.
لقد كشف الماضي والحاضر عن عجز النظم الوضعية عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي والرفاه المادي جنباً إلى جنب مع الرفاه الروحي، فضلاً عن عجز الدول النامية وفي مقدمتها الدول الإسلامية عن تقليل الفجوة الاقتصادية بينها وبين الدول المتقدمة، بل ومعاناة العديد من الدول الإسلامية من ازدياد حدة المشكلات الاقتصادية في شكل عجز مستمر في موازين المدفوعات وارتفاع غير عادي في الدين العام بنوعيه الداخلي والخارجي، واشتداد حدة التضخم وارتفاع وتنامي نسبة الفقر؛ وهو ما دفع العديد من الدول الإسلامية والغربية – على السواء – في واقعنا المعاصر إلى الاهتمام بالاقتصاد الإسلامي فكراً وتطبيقاً.