قال الكاتب والفيلسوف المصري الراحل، زكي نجيب محمود: “يموت الإنسان ليحيا”. ولعله في هذه العبارة الوجيزة لخَّص حقيقة قرآنية شديدة الأهمية، من المفترض أنها –وفق التصور الإسلامي– تشكل حياة الإنسان وسعيه في الدنيا.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سُورة “العنكبوت” – الآية: 64].
وفي هذه الآية، وفي عشرات الآيات الأخرى في القرآن الكريم؛ تأكيد إلهي على أن الحياة الحقيقية التي يحياها الإنسان، إنما هي الحياة الآخرة، وإنما الدنيا هي مرحلة مؤقتة ومجرد متاع، لا يجب أن يجعله الإنسان آخر منتهاه.
وفي سُورة “الفجر”، آيات كريمات تؤكد هذه المعاني، فيقول الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)}. هنا تأكيد إلهي على أن الدنيا إنما هي مقدمة لحياة الإنسان الحقيقية في الآخرة، يقدم فيها ما سوف يصنع مصيره الحقيقي؛ حيث مصير الإنسان ليس في الدنيا، وإن كان يُرسَم فيها بعمله وما قدمه لآخرته؛ حيث حياته الحقيقية.
كما حذَّر القرآن الكريم، وكذلك السُّنَّة النبوية، في كثير من المواضع، من عدم اغترار الإنسان بالحياة الدنيا، وأن يحمله زخرف الدنيا على تجاوز حقائق إيمانية تتعلق بحقيقة وجود الإنسان في هذه الدنيا، وأدواره فيها، وما هو مطلوب منه.
والرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- استعاذ في دعائه من أن يجعل الله تعالى الدنيا أكبر همِّنا.
وفي هذا الصدد ثمة حقيقة عقيدية مهمة يجب أن تستقرّ في النفوس، وهي أن أمور الحياة والممات إنما هي بيد الله عز وجل، وبالتالي فإنه لا يجب على الإنسان أن يقدم التنازلات في الأمور العظيمة التي تُعرَض عليه.
قبل أيام تداولت وسائل الإعلام الغربية تقريرًا مهمًّا مفاده: أن شخصًا فرنسيًّا قد أمضى في غيبوبته سبعة عشر عامًا، وبدأ الجميع، من أهله وأطبائه المعالجين، في التفكير في رفع أجهزة التغذية والإحياء المؤقت عنه، وإعلان وفاته، ولكن قبل اتخاذ القرار جاء طبيبٌ فأجرى عليه تجربةً جديدةً فعاد إليه بها وعيه!
في المقابل، ظل ذوو أحد مرضى الغيبوبة في المملكة المتحدة يلحون في رفع أجهزة الإحياء المؤقت عن ابنهم المريض، حتى تم لهم ذلك بحكم قضائي، ومات الشاب، قبل أن يعلن الأطباء في فرنسا عن هذه التجربة الجديدة.
من مثل هذه المواقف وغيرها، نفهم أن أمور الحياة والموت بيد الله تعالى وحده، وتسير بمقاديره عز وجل، وأنه اختص نفسه بهذه الأمور، لا يشاركه فيها أحدٌ، باعتبار أنها من صميم صفات الربوبية والألوهية.
وهذه الأمور، وظواهر مماثلة نجدها تملأ المجتمعات المادية وهو انحراف العقل الإنساني الذي لم يتمكن منه الإيمان، برسالة العلم، بحيث طغى غرور العقل وسطوة العلم المادي على الجانب العقيدي.
ونعود إلى نقطة الأساس المهمة، وهي أنه بما أن الحياة والموت بيد الله عز وجل؛ فإن ذلك لابد له وأن ينعكس على المواقف التي يتخذها الإنسان في حياته.
وهي نقطة شديدة الأهمية تمس الواقع الراهن الذي تحياه المجتمعات المسلمة، والحركات الإسلامية.
فمن بين أهم الأزمات والمشكلات التي تعترض طريق المشروع الإسلامي في وقتنا الراهن، إما تخاذل المؤمنين بالمشروع، أو النفاق لدى خصومه والمنتفعين من بقاء الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
وبالرغم من أن كلاهما –المؤمنون بالمشروع وخصومه، والمنتفعين من الأوضاع الراهنة– إنما هما طرفا نقيض، إلا أن السبب في الحالتَيْن -التخاذل أو النفاق- إنما يعود إلى غياب هذه الفكرة، وهي أن مصير الإنسان في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، إنما هو بيد الله عز وجل وحده.
وترتبط بهذه الفكرة قضية أخرى، تتعلق بغياب المعرفة الحقيقية بصفات الخالق عز وجل، والتي من بينها –وجعلته ضمن صفاته الأخرى هو الأحق بالعبودية– أنه هو وحده المتصرف في الكون، وفي كل الخلْق، وبيده مصائرهم جميعًا، وأنه هو القيوم، أي القائم على شؤون عباده، بمَن فيهم المؤمنون والكافرون.
وبالتالي فإن التخاذل يحقق معانيَ سلبيةً تطعن في صحيح إيمان الإنسان بخالقه، أما النفاق فهو أخطر؛ حيث يعكس خللاً عقيديًّا في الأصل.
فالتخاذل قد يأتي من عوامل ضعف مادية الطابع، أو ضعف نفسي متأصل في الإنسان، فيؤثر على قابلية استجابة الإنسان للتحديات التي تواجهه، أما النفاق، فهو يعكس خوفًا من المخلوق وتمجيدًا له منبنيًا على مصلحة ذاتية، على حساب الخالق.
ولذلك فإن المنافق في الدرك الأسفل من النار، فهو أسوأ من ألوان من المشركين والكافرين؛ حيث إن ممارسة النفاق تتم في ظل معرفة حقيقة الخالق عز وجل، ويترتب عليها الكثير من الأذى لعباد الله الضعفاء الآمنين.
إن الجميع يجب أن يدرك أن من نخشاهم أو ننافقهم لا يملكون للإنسان شروى نقير في حياته، أو يستطيعون حمايته من الموت، ومن الحساب بعد الموت، أو في الحياة الدنيا.
إن هذه المعاني متى وقرت في نفس الإنسان المسلم، صحيح الإسلام والإيمان، فإنه يتخلص من أحد أسوأ أعدائه ومعطلاته عن القيام بواجباته، سواء أكانت هذه الواجبات في نطاق رعيته نفسه وأسرته وعمله وغير ذلك، أو في إطار قيامه بواجباته تجاه دينه وخالقه عز وجل.
كما أن هذه الحقائق العقيدية، تقول بأن الخوف من أي شيء خلال الحياة، أو الخوف من الموت؛ أمرٌ غير منطقي؛ حيث إن هناك حياة حقيقية تنتظر الإنسان بعد الموت؛ حيث يجد من الله تعالى ما فقده و”خسره” في الدنيا، من خلال تجارته بنفسه وماله مع الله تعالى في هذه الدنيا.
والتاريخ والسِّيَر فيها الكثير من المواقف والمفارقات التي تجعلنا نقف أمامها متأملين. فالصحابي الجليل خالد بن الوليد، وهو الذي خاض الصحاري والحروب وشاهد الأهوال، وهزم أممًا، خلال قيادته لجيوش المسلمين؛ مات على فراشه -رضي الله عنه- بينما غيره يحيا ويموت من دون أن يقدم أي شيء، لا لنفسه أو لأمته أو لدينه!
وهذا يعني أن المسلم عليه أن يتحرر من الخوف، وأن يتوكل على الله تعالى؛ حيث الحياة والموت بيدَيْه وحده عز وجل، لا يشاركه فيها أحدٌ سواه.
——
* المصدر: موقع بصائر تربوية.