هناك مصطلحات حديثة كادت أن تترسخ في أذهاننا وعقولنا؛ لكثرة استخدامها وشيوعها. وقد تم استخدامها من قِبل المؤسسات الدينية والسياسية على حد سواء.
وقد تكون المفهومات مختلفة على المنطوق الواحد، فتذهب العقول والأهواء في تحديد معناها مذاهب قد تبلغ حد التناقض.
ومن هذه المصطلحات مصطلح: “الإسلام الوسطي”، أو “الإسلام المعتدل”، أو “الإسلام المنفتح”، أو “الإسلام السياسي” وما شابه هذه المصطلحات.
ولكن هل من المقبول -مثلاً- أن نصف الإسلام بالاعتدال؟
كان دونالد ترامب أثناء جولاته الانتخابية يستعمل مصطلح “الإسلام الراديكالي”، وظل يكرره في تجمعاته الانتخابية ومقابلاته التلفزيونية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
ولمايكل فلين -الرجل الذي اختاره ترامب ليكون مستشاره للأمن القومي- كتاب نشره بالاشتراك مع مايكل ليدين المحلل والمؤرخ اليميني المتشدد بعنوان: “ساحة الحرب.. كيف يمكن أن نكسب الحرب الكونية ضد الإسلام الراديكالي”.
أما كاثلين ماكفارلاند والتي اختارها ترامب لتكون نائبة لفلين في مكتب الأمن القومي، فإنها ترى -أيضًا- أن العدو هو “الإسلام الراديكالي”، وترى أن “الإسلام الراديكالي -على حد تعبيرها- هو التهديد الأكبر للحضارة الغربية، مثلما كانت الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، ومثلما كانت الشيوعية خلال الحرب الباردة”(1).
وإنني بعد تقليب النظر في أمثال هذه المصطلحات الإيجابية قبل السلبية رأيت أنه لا داعي من وصف الإسلام بأي وصف.
فالإسلام إسلام، والدين دين. والذي يوصف بالاعتدال أو التشدد أو الوسطية أو التطرف هو الفكر والأفراد الحاملة لهذا الفكر أو ذاك.
فالدين من لدن آدم حتى محمد عليهما -أزكى الصلوات والتسليمات- هو الإسلام، قال -تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19].
فالدين واحد، والشرائع مختلفة؛ فالإسلام “يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء; لأنه هو روحها الكلي الذي اتفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها، وبه كانوا يوصون.
وبذلك تعلم أن المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصًا من شوائب الشرك بالرحمن، مخلصًا في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد ومكان”(2).
ولم يصف ربنا -تعالى- الإسلام بالوسطية، بل وصف بذلك الأمة، فقال -تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
قال الطبري -رحمه الله: “وأرى أن الله -تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسطٌ؛ لتوسُّطِهم في الدين، فلا هم أهلُ غلو فيه غلوّ النصارى الذين غلَوْا بالترهب، وقِيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهلُ تقصيرٍ فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذَبوا على ربهم، وكفروا به،
ولكنهم أهلُ توسُّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوسطُها”(3).
فالغلو والاعتدال والتشدد والتسيب لصيق بالأفراد؛ لذا كان الخطاب الرباني لأهل الكتاب بنهيهم عن الغلو فقال -تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ [النساء: 171].
وحذر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتباعه من التشدد والغلو والتكلف فقال: “هلك المتنطِّعون”(4).
والمتنطعون هم “المتعمِّقون الغالُون المجاوزون الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم”(5).
وعندما نشأت الفرق المنحرفة المنتسبة للإسلام لم يكن ظهورها لعيب في الدين، بل لعيب في الأفهام والعقول.
وإن كنت لا أشكك في النوايا الطيبة للذين تحدثوا عن “وسطية الإسلام” أو “الإسلام الوسطي” ونظّروا له، وأتوا بالشواهد والأمثلة للتدليل على رؤيتهم، إلا إنني ما عدت أحبذ استخدامه، وأرى تجنيب الإسلام وصفه بأي صفة.
وعند التدقيق -مثلاً- في مصطلح “الإسلام المعتدل” لا نكاد نفرق بينه وبين العلمانية؛ فهو إسلام منزوع الفاعلية والحركية، يراد منه أن يكون مجرد طقوس وشعائر جافة آلية لا تأثير لها في حياة الناس ومعاشهم ونظام حياتهم. إن محاربة التشدد والغلو لا يعني أبدًا أن نقوم بتمييع الدين؛ فكلاهما خطر على الأمة.فعلمنة الإسلام هو في خطورة التشدد والمغالاة.
إن المنهج القويم هو أن نحارب الأهواء التي تنحرف بالأمة عن جادة الصواب، ولا نُلبس الدين أهواءنا، فنؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.
ولن يأتي خير لهذه الأمة إذا كانت محاولة إصلاحها يأتي من خارجها، ومن بين يدي أعدائها.
إنها ليست محاولات إصلاحية بقدر ما هي محاولات لتدجين هذه الأمة، والإبقاء عليها في دائرة التبعية للآخر، وفرض السيطرة الدائمة عليها.
ثم ما معنى الإسلام السياسي؟
إنه مصطلح يستخدم للدلالة على الحركات الإسلامية التي تؤمن بأن الإسلام نظام شامل لكل مناحي الحياة، وأنه يجب إعادة تحكيم الإسلام في البلدان المسلمة، وإزاحة العلمانية عن الحكم.
فهذا مصطلح دخيل يحاول الغرب غرسه، ويأتي أتباعهم في الداخل بتعميقه وإشاعته، وهو تقزيم للدين وتفريق فيه، وهؤلاء يصدق فيهم قوله -تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: 89-91].
إن الآلة الإعلامية الضخمة التي توظفها التوجهات السياسية للدول الكبرى من العوامل الفاعلة في نشر هذه المصطلحات، وكل فترة ينحتون مصطلحًا جديدًا يصفون به الإسلام، فنتلقفه ونقوم بترديده والحديث عنه كثيرًا، ومن الأولى محاربة هذه المصطلحات، وعدم الانسياق وراءهم بترديدها؛ فالإسلام لا يمكن وصفه بمثل هذه الأوصاف. ولكن الذي يمكن أن يتصف بمثل هذه المصطلحات وأمثالها هي الأفكار والآراء، والتي يتحمل تبعتها الأفراد أصحابها وليس الإسلام.
—–
(1) انظر: مقالة حرب ترامب العالمية ضد الإسلام الراديكالي لعثمان ميرغني، جريدة الشرق الأوسط، العدد (13883).
(2) تفسير المنار، (3/212) باختصار.
(3) أخرجه مسلم في “العلم”، باب: “هلك المتنطعون”، ح(2670) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه.
(4) تفسير الطبري، (3/142).
(5) شرح النووي على مسلم، (16/220).
——
* المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف).