بعد نحو شهرين، كان من المفترض أن تتزين جدران بيت الشابة حنان تنيرة (22 عاما) ببالونات وزينة ملونة، وأن تضاء الشموع على قالب حلوى كبير تتوسطه صورة ابنتها الرضيعة “مريم” (10 أشهر).
لكن ذلك الحفل الصغير، احتفالا بمرور عام كامل على ميلاد ابنتها البكر الوحيدة، لن يقام، وسيمر قاسيا على قلب الأم، بعد أن فارق زوجها “أحمد الرنتيسي” الحياة شهيدا برصاص الجيش الإسرائيلي في “مجزرة غزة”.
وارتكبت إسرائيل مجزرة بحق متظاهري مسيرة “العودة” في الـ 14 من مايو / أيار الماضي، تسببت باستشهاد أكثر من 60 فلسطينيا، وإصابة أكثر من 2500 آخرين.
فرحة الوالدين ببلوغ ابنتهما الوحيدة عامها الأول، لن تشعر بها الأم، ولن تفرح صغيرتها وعائلتها بتلك الأجواء وهذه المناسبة.
وتسببت أربع رصاصات إسرائيلية أصابت الرنتيسي (27 عاما)، بجعل زوجته الشابة التي لم يمر على زواجهما عامان بعد، أن تحمل لقب أرملة في مقتبل عمرها، وحرمت ابنتها مريم من حنان أبيها.
وتقول تنيرة للأناضول: “أحمد كان يحب مريومة جدا، وكان سعيدا للغاية عندما علم بأنني حامل بها، وكان ينتظر قدومها بفارغ الصبر”.
وتضيف: “مريم أيضا كانت متعلقة به، خاصة في الفترة الأخيرة، عندما كان يعود من عمله كان عيدا بالنسبة إليها، هي صغيرة الآن، لكن أشعر بأنها تفتقده”.
وعقب وقت قصير من مغادرة جثمان الرنتيسي لبيته كي يوارى الثرى، شاهدت تنيرة صدفة ابنتها “مريم” وهي تحتضن صورة والدها الشهيد.
ورغم قسوة المشهد وما يحمله من ألم، إلا أن ذلك الاحتضان الافتراضي بدّد لثوانٍ معدودة الحزن الذي غمر قلب زوجة الرنتيسي، فابنتها رغم صغر سنها تذكر أباها، كما تقول.
وتشعر الأم الشابة بـ “الحزن الشديد”، لأن طفلتها ستكبر دون وجود أبيها بجوارها، ولن يشهد لحظات تعلمها أبجديات الكلمات، ومشي خطواتها الأولى.
وكان الرنتيسي الحاصل على شهادة البكالوريوس في التجارة باللغة الإنجليزية، يعمل محاسبا في مؤسسة بمدينة غزة، ويستعد لإنهاء دراسة الماجستير في الإدارة التربوية.
وبصوت حزين، وبعد لحظات من الصمت، تقول تنيرة: “الكلام عن أحمد لا ينتهي، ومن الصعب للغاية العيش دونه، إنه حنون وطيب ويسعى لراحة عائلته وسعادتها”.
وتتابع: “أحمد ذكي، ومثقف جدا، ويحب العلم، أحمد كل حاجة (شيء) حلوة في حياتي”.
وتستذكر تنيرة: “لانشغاله لم يكن يخصص وقتا جيدا للدراسة، لكنه كان يحصل على درجات مرتفعة، وتقدير امتياز في معظم المواد التعليمية”.
وكان أحمد يشارك في مسيرة العودة كل يوم جمعة، كما تقول زوجته، ولكنها “كانت لا ترغب بذلك، لوحشية إسرائيل في تعاملها مع المشاركين”.
“لقد كان هاجسي من استشهاده وتوقعي لذلك كل يوم جمعة، لزيادة حدة الأوضاع فيه تحديدا، كنت أتوقع أن يعود لي شهيدا، لكنني لم أتخيل لحظة أنه سيستشهد في ذاك اليوم”، بحسب تنيرة.
وتابعت تنيرة: “كان حريصا على سعادتي، وألا أحزن، فلم يكن يخرج للمشاركة في فعاليات المسيرة إلا بعد موافقتي، ورافقته أنا عدة مرات أيضا”.
وفي يوم استشهاد أحمد، لم تتوقع زوجته أن يعود لها شهيدا، فقد غادرها هذه المرة دون أي يقف بجوار باب المنزل يلقي على مسمعها قائمة من “الوصايا” في حال فارق الحياة.
وتتابع تنيرة: “كان دائما يخبرني بوصيته قبل خروجه، وذلك كان يحزنني كثيرا، لكن هذه المرة لم يفعل، فمنحني ذلك شعورا بالراحة والاطمئنان عليه، ولم أكن أتوقع أنه سيستشهد حينها”.
“من الصعب أن تعيش عدة مرات لحظات الوداع، كنت أتألم كثيرا في كل مرة يخرج للمشاركة في المسيرة، لكنه كان يقول لي هذا واجبنا كفلسطينيين، فأدعه يذهب”، وفق تنيرة.
أما والدة أحمد، هيام الرنتيسي (50 عاما) فتقول للأناضول: “يوم استشهاد أحمد استيقظت ابنته مبكرا فقال لها، صاحية تودعي بابا يا مريم، فعم الصمت والحزن المكان”.
وتمنت الأم لو أن وداع أحمد استمر وقتا لا بأس به، كما كان يفعل كل مرة قبل خروجه للمسيرة، إلا أنه خرج سريعا في هذا اليوم بالذات.
وأردفت والدة الشهيد: “أحمد كان كل شيء بحياتي، كان مطيعا منذ صغره، لم أشعر بتربيته، كان متفوقا رغم أنني لم أتابعه دراسيا، لاعتمادي عليه وعلى ذكائه”.
فيما والده محمود الرنتيسي 60 عاما، قال إن “استشهاد أحمد زاده عزيمة وصبرا واحتسابا، وإصرارا على الاستمرار في المشاركة بمسيرة العودة”.
وأضاف الوالد الذي بدا صابرا: “فقدت أحمد الإنسان، بعده الدنيا تهون، فكلها لا تساوي ابتسامة واحدة منه”.
ويصف الأب الذي يعمل أستاذا مشاركا في “تكنولوحيا التعليم” في الجامعة الإسلامية بغزة، ابنه بـ “البار المطيع الذي يسعى لإرضاء والديه”.
واستدرك: “لم يكن يغادرنا يوما لعمله قبل أن يأتي ليسلم عليّ ويقبل رأسي، ويفعل ذلك عند عودته قبل الذهاب لمنزله”.
وسيفتقد الرنتيسي ابنه في كل مرة يذهب إلى عمله، فالمقعد المجاور المخصص له في سيارته سيكون شاغرا بعد اليوم، ولن يوصله مرة أخرى.
وبدأت مسيرة العودة في 30 مارس / آذار الماضي، حيث يتجمهر آلاف الفلسطينيين في عدة مواقع قرب السياج الفاصل بين القطاع وإسرائيل، للمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 1948.
وأسفرت تلك المسيرة عن استشهاد 118 فلسطينيا، وإصابة أكثر من 13 ألف فلسطيني.