عندما ظهرت الحركات الإسلامية ذات الطابع السياسي الحركي، بشّرت بأن آلام المسلمين واحدة، وآمالهم واحدة، وأنه يمكن للأمة الواحدة أن تعود من جديد، رغم آلام الفرقة والتمزق التي أوجدها الاستعمار (الاستدمار) في بلدان المسلمين.
وظهرت الحركات الإسلامية في وقت كانت تتشكل فيه الحدود السياسية بين الدول العربية، وعليه فعمر الحركات الإسلامية قريب من أعمار الدول العربية الحديثة، إن لم تكن أقدم من بعض الدول التي جاءت ولادتها السياسية متأخرة عن نشأة الحركات الإسلامية المؤثرة في المنطقة.
يقول الأستاذ حسن البنا في معرض حديثه عن الوحدة الإسلامية المنشودة: “كانت وحدة العرب أمرًا لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه.
ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية.
بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية، والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة هو وطن وجنسية، وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “المسلم أخو المسلم“([1])، و”المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم“([2]).
الإسلام -والحالة هذه- لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعًا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده.
وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين، وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)”([3]).
الطريق إلى الخلافة
وتأسيسًا على هذا الفكر آمنوا إيمانًا جازمًا بدولة الخلافة، والعمل على عودتها من جديد؛ فـ”الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها.
والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة -رضوان الله عليهم- النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها.
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات:
لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض”([4]).
ومن أجل هذه الفكرة حورب الإسلاميون داخليًّا وخارجيًّا، فالأنظمة تخاف على عروشها التي لم تلبث أن تمكنت منها بعد الاستقلال، أما القوى الكبرى فترى أن فكرة عودة دولة واحدة تجمع معظم المسلمين يشكل خطرًا كبيرًا عليها وعلى مصالحها.
وقد كان الصدام مع الحركات الإسلامية من الأنظمة مبكرًا، وكانت الغلبة الدائمة للأنظمة المتعاقبة.
وقد استطاعت الأنظمة المتعاقبة أن تخرج الإسلاميين من دائرة النفوذ السياسي، لكنها لم تتمكن من الحد من نفوذها الاجتماعي والثقافي والفكري.
ورغم هذا الصراع فالحركات الإسلامية استوى عودها، وتجذرت في البلدان العربية، وامتدت أفكارها للعالم الفسيح.
وفي المقابل شاخت الأنظمة وفقدت بريقها أمام شعوبها، ولم تستطع أن تنهض بشعوبها، بل هوت بها في هوة سحيقة من الجهل والتخلف والفقر والتبعية.
حتى جاءت لحظة حاولت الشعوب أن تسترد زمام المبادرة، وأن تعطي زمامها لغير هذه الأنظمة التي فشلت في القيادة.
فلم تجد أمامها إلا الإسلاميين، فرفعتهم إلى سدة الحكم، فعادت الأنظمة القديمة بمعاونة أنظمة عربية أخرى ترى في الإسلاميين عدوًّا لها، فأقصتهم ونكلت بهم.
لكن هناك بعض الأنظمة التي سمحت للإسلاميين بأن يكون لهم مشاركة في الحكم، ورسمت لهم دوائر حمراء لا يمكنهم الخروج عنها.
بين الشرق والغرب
وقد لاحظت أن أنظمة المغرب العربي الكبير تعتبر الإسلاميين جزءًا من النظام والدولة؛ لذا استوعبتهم وأشركتهم بحدود في الحكومات.
وفي المقابل لم تر الحركات الإسلامية بأسًا من الاعتراف بشرعية هذه الأنظمة والتعاون المثمر فيما بينهما.
على عكس العلاقة بين الأنظمة المشرقية والإسلاميين، والتي ترى -في أغلبها- أنه يجب استئصال الإسلاميين، ومحاربتهم بكل السبل، وإلصاق تهم الإرهاب بهم، والنظر إليهم على أنهم خطر على الأمن القومي لتلك الدول.
وفي المقابل كانت نظرة الإسلاميين لهذه الأنظمة أنها أنظمة غير شرعية، وأنه يجب إزالتها، والعمل على إسقاطها بكل الطرق المشروعة.
لكن بالنسبة للأنظمة المتصالحة مع الإسلاميين نشأت بعض الإشكالات، ومنها: التماهي التام بين الحركات الإسلامية والدولة القُطرية.
وهناك خلافات بين الدول بعضها البعض، منها: خلافات حول الحدود، والاعتراف بالحركات الانفصالية من عدمه.
فكان موقف الإسلاميين في كل دولة هو موقف دولتها؛ فهي في السياسة الخارجية لا تخرج عن رؤية الدولة.
فكانت القضايا الكبرى من الوحدة ونبذ الخلاف والشقاق، والعمل على عودة الخلافة شعارات وأفكارًا على المستوى النظري.
أما على المستوى العملي التطبيقي فكانت الإقليمية السياسية؛ حيث كل حركة تدور داخل إقليمها السياسي والجغرافي.
وأصبح الحديث عن الدولة الوطنية والتأصيل لها مقدما عن الحديث عن الوحدة الإسلامية الجامعة والعمل على إيجادها.
فظهر أن الأحلام التي دغدغ بها الإسلاميون المشاعر ضاعت في أرض الواقع السياسي العملي.
فهل هذه الإقليمية السياسية مجرد مرحلة اضطر إليها الإسلاميون، أم أن الواقع اضطرهم إلى النزول من علياء القضايا الكبرى؟
([1]) جزء من حديث أخرجه مسلمٌ في “الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالآدَابِ”، باب: “تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ وَخَذْلِهِ وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ”، ح(4650).
([2]) أخرجه أبو داود في “الْجِهَادِ”، باب: “فِي السَّرِيَّةِ تَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ”، ح(2371)، وابن ماجه في “الدِّيَاتِ”، باب: “الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ”، ح(2673)، وقد صححه الألباني في “صحيح سنن أبي داود”، ح(2751).