ترجمة: جمال خطاب
من المؤكد أن بولتون غاضب من قرار ترمب حول سورية، وبمجرد وصوله إلى “إسرائيل” -في طريقه إلى تركيا- بدأ يناقض الرئيس بشأن حزب العمال الكردستاني، تحسبًا لتحول الطقس التركي إلى الفتور.
وخلافاً لتوقعاتي، تستمر التطورات في الاتجاه الصحيح، ففي الوقت الحالي، أصبح الجميع على دراية بمحادثة منتصف ديسمبر التليفونية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الأمريكي دونالد ترمب التي أدت إلى تسليم ترمب المسؤوليات الأمنية في شمال شرق سورية إلى أنقرة.
وقد شهدت الأسابيع التالية بعض التغيير في قرار ترمب الأصلي بالخروج في أقرب وقت ممكن، والسبب الرئيس هو أن المسؤولين الأتراك يريدون انسحابًا أمريكيًا مخططًا له من أجل الحد من الفرص التي قد يضطر بها الفاعلون الآخرون، أي نظام دمشق، روسيا، أو “PKK / PYD / YPG” أنفسهم، إلى مواءمة الوضع لصالحهم، طلب تركيا منطقي بشكل بارز ويجب على أي صانع سياسة رشيد في الولايات المتحدة أن يرى ذلك.
لكن سورية ليست التطور الإيجابي الوحيد، فمباشرة بعد السنة الجديدة، بدأت الوفود من الولايات المتحدة في التدفق إلى أنقرة، وبعد وصول المجموعة الأولى سرعان ما علمنا أن أعضاء الوفد أخذوا شهادات من أتباع رئيسين لفتح الله غولن معتقلين في تركيا، وأن الحكومة التركية قدمت كميات كبيرة من الأدلة المهمة المتعلقة بمحاولة الانقلاب التي وقعت في يوليو 2016م.
وطبيعي أن يكون هذا تطوراً روتينياً في العملية القضائية، وقد لا يؤدي إلى أي نوع من التحرك القانوني نحو تسليم فتح الله غولن إلى تركيا، لكن هذا تطور حيوي في ضوء ما لم يحدث في السنتين ونصف السنة الماضة، جمع الأدلة الأساسي هو الإشارة العلنية حتى الآن التي تشير إلى أن العمليات القضائية ضد غولن قد تكون في الأفق، وهي إلى حد بعيد أهم خطوة اتخذتها الحكومة الأمريكية فيما يتعلق بالعديد من المتورطين في محاولة الانقلاب والإيواء، وفي الولايات المتحدة، في هذه المرحلة، يمكننا فقط أن نراقب ونأمل أن تبدأ إجراءات المحكمة بشأن تسليم غولن في مرحلة ما بعد.
ترمب يأخذ بزمام المبادرة
هذه التطورات الأخيرة تعطي الانطباع بأن ترمب قد انتزع السيطرة على قرارات السياسة المتعلقة بمنطقة تركيا بعيداً عن الجيش، وعن مستشار الأمن القومي جون بولتون، وصهر ترمب جاريد كوشنر، فحتى ديسمبر، لم يكن لترمب أي تأثير على هذه القضايا، وكان تأثير بولتون قد دفع السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى اتجاهات أكثر عدوانية.
لكن فجأة أخذ ترمب المبادرة بعيداً عن القائمين العسكريين وعن بولتون، وأثناء محادثة ترمب مع أردوغان، ورد أن بولتون كان بجانبه، تجاوز ترمب الصقر اللدود و”الأمريكي الأول” بولتون، وأصدر أوامر ببدء الانسحاب، الآن بولتون في طريقه إلى أنقرة (بعد توقف في “إسرائيل”) لإجراء مفاوضات بشأن الانسحاب الأمريكي، من المؤكد أن بولتون غاضب من هذا التحول في الأحداث، وبمجرد وصوله إلى “إسرائيل”، بدأ يناقض ترمب بشأن حزب العمال الكردستاني، وهذا يعني أن كل حركة وبيان بولتون يجب أن يتم التدقيق فيه بشكل مكثف، كما ينبغي أن تكون زيارة بولتون مسلية إذا ما شاهدنا بعض المسرح السياسي، وتحسبًا لتحول الطقس التركي إلى البرودة.
كارثية سياسة أوباما الخارجية
المفارقة هي أن إدارة ترمب هي التي تتخذ القرارات التي كان يجب على إدارة أوباما اتخاذها منذ سنوات، على الرغم من أن سلف ترمب كان ينبغي أن يتخذ الإجراءات القانونية المناسبة ضد غولن وعقيدته بعد ستة أشهر من محاولة الانقلاب، ولكن لم يتم فعل شيء على الإطلاق، الشيء الوحيد الذي حققه الرئيس أوباما فيما يتعلق بالعلاقات التركية الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة من رئاسته هو إقناع الأغلبية الساحقة من الشعب التركي بأنه إما أنه لم يهتم بحقيقة أن شخصية مسؤولة عن قتل مئات من المواطنين الأتراك كانت تقيم في الولايات المتحدة، أو أنه يدعم ضمنيًا هذا الشخص، وفي كلتا الحالتين، فإن ذكرى أوباما سوف تلعن إلى الأبد من قبل معظم الأتراك على الرغم من أنه بدأ رئاسته بالسفر إلى إسطنبول وأنقرة، وحظي بشعبية كبيرة في البلاد.
وبالتالي، ومع مرور كل يوم، فإن سياسات إدارة أوباما تجاه تركيا ومنطقتها خلال الفترة من 2012 – 2016م تبدو كارثية ومضللة بشكل متزايد، ولا شك في أن ترمب يعاني من مشكلة في البقاء مركَّزًا، وتواجهه العديد من المشكلات السياسية والقانونية المحلية، ويعرض القليل من المعرفة الملموسة حول أي قضية بعينها، وكثيراً ما يلجأ إلى تلفيق من أجل تقديم نسخته من العالم، ولكن فيما يتعلق بتركيا، فإن اختياراته الحالية (وتجاهل، على وجه الخصوص، محاولته الهادفة لشل الاقتصاد التركي في الصيف الماضي) تبدو مستنيرة مقارنة بتلك التي كان يفضلها سلفه.
السؤال الذي يتعين على المؤرخين والعلماء السياسيين المهتمين بالعلاقات التركية الأمريكية أن يتعاملوا معه هو بالضبط السبب الذي جعل خيارات سياسة أوباما تجاه تركيا خاطئة تماماً: هل كانت معلوماته سيئة؟ أم كان متعصباً؟ خائفاً؟ فوضوياً؟ وهل تمكنت هيلاري كلينتون من إدراك أن الولايات المتحدة بحاجة إلى العمل مع تركيا بشأن المشكلات الإقليمية؟ (يرجى الرجوع إلى سيرتها الذاتية “خيارات صارمة”)، فلماذا لم يفهم باراك أوباما نفس الواقع؟ على الرغم من أن هيلاري كلينتون أوصت بالمسار الصحيح، فإن القرارات النهائية لم تكن تستطيع أن تتخذها.
المشكلة أعمق من المعلومات
لكن إلقاء اللوم على المعلومات السيئة يبدو صعبًا عندما يتعلق الأمر بسياسة الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة تتمتع بقدرات متطورة على جمع المعلومات، من أقمار التجسس، للوصول إلى معظم مصادر المعلومات الرقمية في العالم، إلى مؤسسات الاستخبارات الحكومية التابعة لها مثل وكالة الاستخبارات المركزية والمؤسسات الدبلوماسية مثل وزارة الخارجية، إن تخيل أن نقص المعلومات قد تسبب في إساءة إدارة أوباما بشكل سيئ للغاية ليس بالأمر السهل.
وبدلاً من ذلك، أقترح أن يكون تفسير المعلومات المتاحة هو المكان الذي ارتكبت فيه الأخطاء القاتلة، وأنا أعني “قاتلة”؛ لأن القرارات السياسية التي اتخذتها إدارة باراك أوباما تجاه سورية وتركيا في الفترة من 2012 – 2014 قد كلفت البشرية في النهاية مئات الآلاف من الأرواح، شكوكي هو أن المسؤولين المكلفين بتقييم المعلومات المتاحة ومن ثم صياغة السياسة لم يكن لديهم التعليم أو الخلفية أو الخبرة أو القدرة التحليلية للتحقق من السياسات الصحيحة.
بالتأكيد لو كان هؤلاء المسؤولون يقرؤون أو يشاهدون التغطية الإعلامية الأمريكية لتركيا وسورية في تلك السنوات، لكانوا بالفعل لا يفهمون إلا القليل عن جوهر الحالة أو القضايا المعنية؛ وقد كانت الصحافة الدولية أفضل قليلاً، وحتى يفهم هؤلاء المسؤولون، في هذه المرحلة، ما السياسة الأمريكية تجاه تركيا يجب ألا تكون ببساطة مسألة وجود فهم قوي لماهية المصالح الأمريكية، كان من الضروري أيضاً فهم قوى التحول الاجتماعي والسياسي الذي يحدث في تركيا، بكل أبعاده، وفي المنطقة الأوسع، وبغياب هذا المنظور الأكبر لم يتمكنوا من فهم المعلومات الموجودة في حوزتهم بشكل واضح، ففي مكان ما تتوافر فيه المعلومات وقع المسؤولون الذين أنتجوا قرارات أوباما بشأن السياسة الخارجية في أخطاء فظيعة.
وحتى أواخر العام الماضي، عرضت إدارة الرئيس ترمب نفس السلوك، ولهذا السبب، صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أثناء هجوم أغسطس على اقتصاد تركيا، الذي استهدف عن قصد، بسخط واضح بأن الولايات المتحدة لم تكن لديها القدرة على تمييز من هم أصدقاؤهم الحقيقيون.
من ناحية أخرى، شهد الشهر الماضي تطورات إيجابية مفاجئة؛ هل أدرك المسؤولون الأمريكيون في النهاية بعض الحقائق الأساسية التي لم يتمكنوا من إدراكها في السابق؟
هل برهنت إدارة ترمب أخيراً على وجوب أن يكون الحليف الديمقراطي لـ”الناتو” الخيار المنطقي للثقة بأمور الأمن الإقليمي؟
هل تعترف إدارة ترمب بمرض غولن الذي يعصف بالعلاقات بين الدولتين وتتخذ الإجراءات الصحيحة؟
نأمل أن نشهد قريباً إجابات إيجابية عن هذه الأسئلة.
________________
المصدر: “الأناضول”.
(*) يدرّس التاريخ التركي في جامعة سابانجي بإسطنبول ويحمل شهادة الماجستير والدكتوراه في التاريخ من نفس الجامعة.