أكد استشاري الطب النفسي د. عادل الزايد، مدير مركز الكويت لمكافحة الإدمان ومدير مستشفى الكويت للصحة النفسية سابقاً، أن الأمراض النفسية متى ما سُمّيت أمراضاً بواسطة التشخيص الطبي الذي يقوم به الطبيب، وأياً كان اسم هذا المرض، فهي حالة عضوية تنتج عن خلل في مواد كيميائية داخل جسم الإنسان، واستدل على ذلك باستجابتها للعلاجات الدوائية.
وفي حواره مع «المجتمع»، أشار الزايد إلى أن هناك فرقاً بين المشاعر اليومية؛ كالسعادة والحزن والضيق والانفعالات بصفة عامة، والأمراض النفسية؛ فتلك الأمراض ليست هلامية، بل خاضعة لقواعد التشخيص حسب التصنيف العالمي للتشخيصات النفسية، وقد تطرق هذا الحوار مع الزايد، وهو أحد رموز الكويت في مجال الطب النفسي، ومن أوائل الحاصلين على شهادة الكلية الملكية البريطانية في الكويت، إلى العديد من القضايا الأخرى المهمة في هذا المجال.
* بداية، كيف تُعرّف الصحة النفسية؟
– تحدثت منظمة الصحة العالمية عن تعريف الصحة النفسية، وعرّفتها بأنها حالة من التوازن الفكري والعقلي والنفسي؛ بمعنى الشعور بأنني قادر على التعامل مع المجتمع ومع ذاتي، والتعامل مع انفعالاتي المختلفة أثناء مسيرة حياتي، ومعنى هذا التوازن أن لديَّ حالة من الصحة النفسية.
وهذا لا يعني أنني لا أمرّ بحالات من التقلب المزاجي، وشعور بعدم السعادة، والغضب، والانفعال، ولكن القضية هي قدرتي على التحكم في هذا الأمر، فإذا غابت هذه القدرة فمعنى ذلك أنَّ لديَّ مشكلة في الحالة النفسية.
وهذا هو التعريف العام، ولكن الحالة النفسية أو المرض النفسي من وجهة نظر طبية له مفهوم وتعريف آخر.
فالأمراض النفسية متى ما سُمّيت أمراضاً بواسطة التشخيص الطبي الذي يقوم به الطبيب، وأياً كان اسم هذا المرض، فهي حالة عضوية تنتج عن خلل في مواد كيميائية داخل جسم الإنسان، في المخ على وجه التحديد، وهذه المواد الكيميائية نطلق عليها موصلات للإشارة العصبية، وهذه الموصلات عندما تزيد أو تنقص بشكل مستمر تؤدي إلى بعض الأمراض النفسية.
لذا، فالأمراض النفسية عضوية، تنتج عن الخلل في الموصلات العصبية، وينتج عن ذلك قضيتان:
الأولى: «الاسم»، ويطلق عليها «أمراض نفسية»؛ وبالتالي فهي تنتج من النفس وليست عضوية.
والثانية: أن المسببات الرئيسة للمرض لا نعرفها؛ فنحن نجهل الخلل (الكيميائية العضوية التي حدثت)، ونجهل المسبب الرئيس الذي سبب هذا الخلل، وهذا لا يعني أنه لا يوجد مرض؛ لأنه على سبيل المثال مرض «السكري»، نعلم أنه ينتج عن فقدان المستقبلات للأنسولين في خلايا الجسم نظراً لحساسيتها له، أو أن البنكرياس لم يعد يفرز الأنسولين بكمية كافية.
ولكن ما الذي يجعل هذه الخلايا غير قادرة على استقبال الأنسولين، مثلما كانت تفعل في السابق، لا أحد يعلم حتى الآن، وبالتالي الأمر نفسه في الأمراض النفسية، وكوننا لا ندري عن السبب في حساسية الخلايا المستقبلة للأنسولين من الأنسولين، فهل عدم درايتنا بهذا الأمر يحتم علينا القول بأن السكري ليس مرضاً عضوياً؟ والأمر كذلك ينطبق على الأمراض النفسية.
فنحن نجهل السبب الذي يجعل الموصلات للإشارات العصبية زائدة أو ناقصة، فهذا لا ينفي وجود مرض عضوي.
وأكبر دليل على أن الأمراض النفسية هي في الأساس عضوية، أنها تستجيب للعلاجات الدوائية التي تؤدي إلى التحسن في الحالة النفسية وزوال هذه الأمراض.
* ما الفرق بين إنسان يعاني من أمراض نفسية، وآخر حزين، أو بعيد عن الله، عاق للوالدين، أو متضايق نفسياً؟ فهل لذلك علاقة بالأمراض النفسية؟
– أولاً لا أدري كطبيب إن كان البعيد عن الله، أو العاق للوالدين، أو الذي لديه مشكلات أخلاقية أو سلوكية، يؤدي إلى ضيق نفسي، أو ما شابه ذلك.
هناك فرق بين المشاعر اليومية كالسعادة والحزن والضيق والانفعالات بصفة عامة، والأمراض النفسية، فهذه الأمراض ليست هلامية، بمعنى، أن الطبيب النفسي «أ» قام بتشخيص مرض لشخص ما، وهذا الشخص نفسه يتم عرضه على الطبيب النفسي «ب»، أستطيع القول: إن الطبيب النفسي «ب» سيقوم بتشخيص الحالة المرضية كما شخصها الطبيب النفسي «أ» بنسبة %90 أو يزيد، وتبقى الـ%10 الباقية التي يُحتمل أن يحدث اختلاف في تشخيص المرض، نظراً لتعدد الأمراض المتشابهة.
وذلك لأنه يوجد عندنا قواعد للتشخيص، فالتصنيف العالمي للتشخيصات النفسية حددت قواعد لتشخيص الاكتئاب، على سبيل المثال، وكذلك حددت قواعد لتشخيص الانفصام، وأخرى لتشخيص الهوس والاضطراب الوجداني.
وبمجرد تشخيص المرض، فهذا يعني أنه استوفى كل القواعد والتصنيفات العالمية.
الفرق بين المشاعر الدارجة والمرض هو الفترة الزمنية، فهي أحد المتطلبات المهمة في مسائل التشخيص للمرض، فعلى سبيل المثال؛ مرور أسبوعين على حالة مرضية دون أن يحدث أي تغيير للأفضل، بل تزداد الحالة سوءاً؛ فهذا يعني أنه مرض.
أما فيما يخص المشاعر الدارجة؛ كحالة الحزن، أو وفاة قريب، أو التعرض لمشكلة في العمل، فحدوث هذا الأمر مع حالة من الضيق، نتيجة الحادث الذي حدث، أو عدم القدرة على النوم، وما يصاحب ذلك من اضطراب أو عصبية، كل ذلك لن يستمر فترة طويلة.
وكما تحدثنا في البداية، فإن من عوامل الصحة النفسية القدرة على التعامل مع تقلباتي النفسية.
لذا نستطيع القول: إن المشاعر والأحاسيس لا تدخل ضمن الأمراض النفسية إلا إذا تفاعلت واستمرت فترة طويلة، وبمجرد تفاعلها واستمراريتها فهذا يعني أنها أفضت إلى مرض نفسي.
* هل يتوقف علاج المرض النفسي على تناول الأدوية، أم أن هناك طرقاً أخرى كالحوار؟
– هناك بعض الأمراض التي لا بد للمريض أن يتناول لها العلاج الدوائي؛ مثل الانفصام، والاكتئاب الشديد، واضطراب الهوس الوجداني، وغيرها من الأمراض، لا بد من المتابعة مع الطبيب الذي يحدد العلاج الدوائي المناسب لكل حالة، ويجب الانتظام في تناول الدواء الذي تم تحديده؛ حتى لا تتفاقم الحالة وتتطور إلى الأسوأ.
والجلسات النفسية العلاجية تفيد في بعض الحالات؛ مثل حالات الخوف، ونوبات الرهاب.
وهناك أمر لا بد من معرفته، وهو أن الأبحاث العلمية كافة، وفي كل مستوياتها وأشكالها تثبت أنه كلما استطعنا أن ندمج بين العلاج الدوائي والنفسي؛ كانت النتائج أفضل، فهذا الدمج من أفضل الطرق العلاجية، وأقلها العلاج النفسي منفرداً، خصوصاً إن علمنا أن الجلسات النفسية لا تصلح في الأمراض التي يكون فيها غياب في الاستبصار.
* ماذا عن حالات السحر ومس الشيطان؟ فهل هذه أمراض نفسية أم مشاعر دارجة؟
– لا أستطيع التعميم، فقد جلسنا مع القرَّاء الذين يقولون عن أنفسهم: إن لديهم الخبرة والإلمام والقدرة والإمكانات، ويقرؤون على الحالات التي تأتيهم بزعم أنها مسّ من الجن، أو سحر، أو حسد، أو ما شابه ذلك، وسألناهم عن القواعد التي من خلالها يقومون بتصنيف الحالات التي تأتي إليهم للعلاج، فعلى سبيل المثال؛ الحالة التي تأتي إليكم أصابتها عين، فما القواعد التي يتم على أساسها تشخيص الحالة على أنها مصابة بالعين؟ أو شخص ما يأتي إليكم ويتصرف بطريقة معينة، كيف يتم تشخيص حالته على أنه مسحور؟ وعلى أي أساس يتم ذلك؟ أو شخص مصاب بمسّ من الجن، على أي أساس تم التشخيص؟
وخلاصة الأمر أن تلك الحالات لا يوجد لها تقنين بشكل واضح، أو قواعد محددة يتم التشخيص على أساسها.
وأنا في هذا الموضوع لا أتكلم كطبيب، ولكنني أتكلم كإنسان مسلم واعٍ، ولذلك لا أستطيع قبول هذه التصنيفات والتشخيصات، وهي ليس لها قواعد وأسس واضحة يمكن الاعتماد عليها.
فهناك من يقول: إن المسحور يحلم أحلاماً مزعجة، وأنا أقول: إن مريض الاكتئاب أيضاً يحلم أحلاماً مزعجة، وهناك من غير المسلمين من يحلم أحلاماً مزعجة وعالجناهم وتم شفاؤهم.
لو حددنا الحالات المرضية بأنها نتيجة للعين أو السحر أو الحسد، مع العلم أن هذه الأمراض لا تصيب المسلمين فقط، بل تصيب العالم بأجمعه، والعالم كله يستفيد من العلاجات بالأدوية، وحالاتهم تتحسن، إذن لماذا يقتصر المسلمون في علاجهم على الذهاب إلى القرَّاء والشيوخ، ولا يذهبون للطبيب الذي يشخص الحالة ويحدد العلاج بالأدوية؟
النقطة المهمة في الموضوع، أننا نعرف أن المرض لا بد أن يشخصه طبيب متخصص، كأن يطلب الطبيب -على سبيل المثال- من المريض عدم صوم شهر رمضان، نتيجة لحالته المرضية التي تستدعي ذلك، فلا أحد يستطيع أن يطلب منه هذا الطلب غير الطبيب المعالج لحالته؛ لأن المريض إن ذهب إلى شيخ فقيه من أجل أن يستفتيه أو يأخذ رخصة منه لكي لا يصوم شهر رمضان، فيقول له هذا الشيخ: لا بد من استشارة طبيب ثقة وأمين، فهذا الشيخ يربط فتواه برأي الطبيب المعالج الثقة الأمين.
الأمر الآخر؛ لماذا تقتصر إصابة العين والسحر والحسد والمس على الأمراض النفسية دون الأمراض العضوية؟ ولماذا لا ترتبط إصابة العين بالسرطان، أو أمراض القلب، وغيرها من الأمراض، وتقتصر إصابتها على الحالات النفسية فقط؟! مع العلم أنني لا أستطيع نفي الأمراض المتعلقة بالعين أو السحر أو المس وغيرها، فهذا أمر شرعي، وبخصوص مسألة تلبس الجن بالإنسان أنا شخصياً لا أرى ذلك، ولكن مثل هذه القضايا أتركها لعلماء الشرع، فالرسول “صلى الله عليه وسلم حذرنا من العين، والقرآن الكريم ذكر السحر وما يتعلق به من أمور، وطلب منا الاستعانة بالله والاستعاذة به من كل شيطان رجيم.
وقد أمرنا الرسول “صلى الله عليه وسلم بالأخذ بالأسباب، وطلب الشفاء، وأخذ الأدوية التي تساعد في الشفاء من الأمراض، فقال: «تداووا عباد الله، فما جعل الله من داء إلا وجعل له دواء»، فهذا الحديث النبوي الشريف أكثر صراحة في الحض على التداوي والاستشفاء بتناول الدواء، وهو أكثر صراحة مما يسمى بالعين والسحر والمسّ، والسؤال الأهم: كيف نطرح هذا الحديث جانباً رغم صراحته، ونأخذ بالأحاديث الأخرى؟ فالقضية ليست هوى.
فالمسلم حينما يركب السيارة يقرأ دعاء الركوب، وعندما يذهب إلى النوم يقرأ دعاء النوم، وفي الصباح والمساء يقرأ الأذكار، وغيرها من الأدعية التي تصونه وتحفظه.
هذه الأدعية التي يقوم بها المسلم مستمرة على مدار اليوم؛ فلماذا نربطها بالعملية العلاجية فقط؟ ولماذا نتوقف عن أخذ العلاج الدوائي مع العلم أن الرسول “صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، من باب الأخذ بالأسباب؟
فننصح المريض بأخذ العلاج الدوائي أولاً، وبعد ذلك له أن يذهب كيف يشاء إلى المشايخ الذين يعالجون بالقراءة.
* هل إدمان المطالعة في الأجهزة الذكية يؤثر على الصحة النفسية؟
– الإدمان اليوم بالنسبة لنا ليس ناتجاً عن مادة كيميائية، بل هو مرض سلوكي، وبالتالي حينما يدمن الإنسان المواد المخدرة فهذا يعني أنه يعاني من مرض سلوكي، ومن مظاهره الاعتماد على تعاطي هذه المواد، وحينما أُدمن الهواتف الذكية، فمعنى ذلك أنني أعاني من مرض سلوكي من مظاهره الاعتماد الكلي على هذه الهواتف، ويدخل في هذا النطاق أيضاً إدمان القمار، والخمر، والجنس، وغيرها من الأمراض الخطيرة.
فكل هذه المظاهر أمراض سلوكية، ولها مظهر واحد هو أنني أقضي معظم يومي في ممارسة هذا الفعل (التعاطي، التليفون، الجنس، القمار، الشراء..)، أما الأوقات الأخرى التي أمارس فيها هذا السلوك، فأقضيها في البحث عن توفير المادة أو توفير الأمر الذي يجعلني أستمر في أداء سلوكي، فإذا ابتعدت عن هذا الأمر؛ سواء بعدم تعاطي هذه المواد المخدرة أو عدم استخدام التليفون الخاص بي، وعدم الذهاب إلى الأسواق، وعدم لعب القمار، حينها أشعر بالاضطراب والقلق.
لذا، فوسائل علاج الإدمان السلوكي مشابهة تماماً لوسائل العلاج من إدمان المادة المخدرة.