ربط متخصصون نفسيون واجتماعيون وعلماء شريعة بين الأزمات النفسية والبعد عن الله عز وجل، ورواج النظرة المادية والتأثيرات السلبية للعولمة، مع غياب الأسرة عن التوجيه والإرشاد النفسي، وقمع الحرية الإيجابية في المجتمعات وبعض الأسر، مؤكدين لـ”المجتمع” أن الوعي بالذات والعالم والاستقامة والمحضن الأسري التربوي وانتشار الحرية المسؤولة ركائز مهمة في مواجهة الأمراض النفسية المنتشرة حتى في الدول الأكثر رفاهية.
يرجع د. وصفي عاشور أبو زيد، أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، وعضو مجلس الأمناء للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الأزمات النفسية لأسباب كثيرة، منها: الأحداث الضخمة التي لا تتحملها النفوس العادية، ومنها الظروف الخاصة والمحن التي يمر بها الفرد نفسه، وهذه تختلف باختلاف الأفراد وظروفهم وسياقات حياتهم، أما في الدول الأكثر رفاهية فتكمن الأزمات النفسية في ضمور الجانب الروحي التزكوي الإيماني الذي يعصم النفس من الانحراف والتردي، ويحفظ لها التوازن والاستقرار النفسي.
وأوضح في حديث لـ”المجتمع” أن العبادات بشعائرها الكبرى والنوافل التابعة لها، وقراءة القرآن، والذكر والدعاء والرجاء والتوبة والأوبة والاستغفار والانكسار بين يدي الجبار هو ما يحفظ الإنسان من الأزمات النفسية، وكذلك مصاحبة الأخيار أسوياء النفس الذين سيكون لهم الأثر الكبير في استقامة الإنسان وحفظ توازنه النفسي.
ويرى د. أبو زيد أن الصدق مع الله مدخل كل استقامة نفسية، قائلاً: لو صدقنا الله تعالى لاستقامت نفوسنا وما انحرفت أبداً ولا تأزمت، وهو القائل سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).
ومن جانبه، يؤكد د. محمود القلعاوي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن الإيمان والاستقامة جديران بمقاومة الأزمات النفسية التي يعيشها الغرب قبل الشرق رغم التقدم الموجود لديهم والأزمات التي تحاصر الشرق.
ويضيف أن الإيمان يمنح المرء السلام النفسي الداخلي والطمأنينة الروحية، بعيداً عن كل الأفكار السلبية والهواجس التي توصل للتوتر والقلق وسائر الأمراض النفسية، ويذكر بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153}﴾ (البقرة)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99}﴾ (الحجر)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة وأبو سعيد: “ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من خطاياه..”.
نظريات وحلول
بدورها، أعربت د. مروة عياد، مستشارة العلاقات الأسرية ومعلمة التربية الإيجابية، عن أسفها من أن الأمراض النفسية باتت أكثر الأمراض المنتشرة حول العالم وخاصة مرض الاكتئاب، موضحة أن هناك العديد من النظريات التي تفسر المرض النفسي، وهناك فيها ما يتعلق بقدرته وقدْر العقبات التي تواجهه مما يسبب توتراً مستمراً ينهك الإنسان نفسياً ويعرضه للمرض، ولأن العالم متسارع جداً وطموحاته باتت زائدة وكثرة أهدافه باتت النسبة أكبر.
وأضافت أن هناك نظريات أخرى تفسر الأمر على أنه اضطراب في صورة الذات من حيث الكفاءة والقبول والسيطرة، وهنا يمكن التوقف قليلاً لنسأل: كيف يقدم العالم القبول والسيطرة والكفاءة على إدارة الأمور للإنسان؟ ولكن الإجابة تكمن في تصدر الصورة المادة على العالم بحيث جنى أموالاً أكثر وسلطة أعلى وشهرة أوسع وأكبر؛ فصار الوصول إلى صورة ذاتية إيجابية في ظل تلك الأبعاد الثلاثة من الصعوبة بمكان ومحاطاً بالعقبات والتحديات التي أدت إلى توترات شديدة أدت إلى المرض النفسي.
ولفتت د. عياد الانتباه إلى أنه لا يمكننا إغفال التربية بالصغر في نشوء الأمراض النفسية خاصة لدى الأطفال والمراهقين، وباتت عيادات الطب النفسي في الفترة الأخيرة مليئة بأطفال ومراهقين من كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والتعليمية، وفي معظم الأحيان تكون الأزمة في إدارة علاقاتهم مع آبائهم أو أصدقائهم، وكذلك إدارة الصعوبات اليومية الحياتية؛ وهو ما نسميه “نقصاً في القدرة على الصمود”، ويرجع ذلك إلى ما نسميه “الحماية المفرطة”؛ حيث يمنع الآباء أولادهم من مواجهة قدر كاف من التحديات التي تبني قدرتهم على مواجهة المشكلات، وتبني شخصيات قادرة على التحمل، كما يرجع في بعض الأحيان إلى أسلوب آخر في التربية يسمى “التسلط” أو “التحكم”، وهو أسلوب يقضي على العلاقة الآمنة بين الطفل وأبويه، ويجعله إما مستسلماً لكل ما يقدم له صحيحاً كان أو خاطئاً، وإما متمرداً على كل قيم وثوابت أسرته ليخرج إلى الحياة وبداخله رغبتان متناقضتان تفرزان الأزمات النفسية.
وأشارت إلى أن زيادة العولمة والانشغال المادي يقلصان دور المحضن الطبيعي ومصدر الأمن والأمان وهو الأسرة، بحيث صارت لا تقوم بدورها في الدعم النفسي والإرشاد الأسرى؛ مما يزيد من احتمالات التعرض للأمراض النفسية في ظل عدم الرصد المبكر للأزمة.
وتقدم د. عياد دواء رباعياً لعلاج الأزمات النفسية، يبدأ من الوعي الذي تعتبره أهم مراحل العلاج والوقاية منه، وهو يأتي عبر الوعي بالذات، وبتأثير المجتمع، وبدور كل فرد وتأثيره، أما الخطوة الثانية في العلاج فهي قبول الأخطاء والتركيز على السعي بدلاً من التركيز على النتائج، وغرس ذلك في الأطفال منذ التنشئة؛ مما يساعدهم مع الكبر على تحمل التحديات وتجارب المعاناة.
وترى د. عياد أن توفير البيئة الآمنة في الأسر والمجتمعات بخلوهم من التهديدات المباشرة، بجانب توفير الاحتياجات الأساسية للإنسان؛ يساهمان في تقويض الأزمات النفسية، مؤكدة أن تحسين العلاقات الأسرية يعتبر صمام الأمان ضد الأمراض النفسية ومصدر دعم ومساندة عند حدوثها.
فقدان الأمان
في سياق متصل، تشير المستشارة الاجتماعية والأسرية منال خضر إلى وجود أسباب داخلية وخارجية أدت إلى وجود جميع الأمراض النفسية الرائجة حالياً، ومن أهمها تعرض الإنسان المستمر للقهر والظلم وفقدان الأمان مع كثرة الدماء والقتل ومحاولة البعض العودة بالإنسان إلى عصر العبودية وتقييد الحرية، عبر مصادرة الرأي والأحلام والطموح والأمل في مستقبل مشرق بالأمل وليس عبر المفهوم القديم للعبودية.
وترى خضر أن من أهم الأسباب الشخصية التي تمس الإنسان نفسه تكمن في التنشئة وطريقة التربية من فقدان للحنان والاحتياج وعدم القدرة على إشباع الرغبات، فضلاً عن التربية في بيئة غير صحية، وفقدان القدوة والأمان الأسري، بجانب الصحبة غير المُعِينة، وأعني بها الصحبة الفاسدة أو السيئة في حياة الإنسان.
وتوضح المستشارة الاجتماعية والأسرية أن التعامل مع الإنسان كجسد وروح هو جسر العلاج من الأزمات النفسية، حيث تقوم على تغذية الجسد والاهتمام بالروح والعودة بها إلى الله، والعودة إلى دور المؤسسات الدينية والعلمية والثقافية والأنشطة والمسابقات المختلفة التي تغذي هذه النزعة الدينية بجانب الترويج للحرية الإيجابية التي تعتبرها من أبرز أسباب علاج الأمراض النفسية في العصر الحالي؛ حيث إن العبيد لا يبدعون ولا يتطورون ولا يسعدون، ويمرضون تحت وطأة الضغوط، مضيفة أنه كلما كان الإنسان حراً كان سعيداً ومبدعاً ومتميزاً وصاحب طاقة جسدية ونفسية منشغلة بالخلق والإبداع.
وتؤكد خضر أن تحقيق الأمان والاستقرار في الأسرة الصغيرة والكبيرة (الوطن) هو ثالث أهم عوامل الحياة بصحة نفسية جيدة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا”، مشيرة إلى أن توفير الحاجات الإنسانية الأساسية عامل مهم لعلاج الأمراض النفسية، متسائلة باستنكار: كيف يعيش بلا أمراض نفسية من لا يستطيع أن يطعم هو ولا يطعم أولاده ولا يوفر لهم العلاج والملبس، ومن لا يجد سكناً وجدراناً تؤويه وأسرته؟!