“إن أعادوا لك الطريق، فمن يعيد لك الخطوات؟.. وإن أعادوا لك صوتك، فمن يعيد لك الكلمات؟.. وإن أعادوا لك المقاهي القديمة، فمن يعيد لك الرفاق؟”..
كلمات قالها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، خاطب فيها جيل النكبة (1948)، وكان لا يدري أن كلماته ستشكل أوتادًا لخيام الجيل اللاحق هناك في الشمال السوري!.
أجيال تحلق أغلب آبائهم، بل أجدادهم، في مخيمات على مرمى أمل من البرتقال والليمون والزعتر!.
عام 1957 وعلى مساحة 2 كيلومتر مربع، غرس الفلسطينيون أوتاد خيامهم في تربة الياسمين جنوبي دمشق، فكان مخيم اليرموك، اسم لم يأت اعتباطًا منذ نشأته، سرعان ما بدأت تهوي إليه أفئدة الحالمين بالعودة من الفلسطينيين.
وقد تحول مخيم اليرموك، الذي استبدل الخيام بالطوب والإسمنت إلى أكبر تجمع فلسطيني في الشتات وخزانًا هائلًا من الطاقات والثقافة والأيديولوجيات الفلسطينية، بمثابة روافد تصب في صالح قضية حق العودة.
اختزل المخيم، وعلى مدار 61 عامًا، الجغرافيا الفلسطينية بأسماء مدنها التي ازدانت بها حاراته وواجهات محلاته، وصور الشهداء التي كانت تتزاحم على جدرانه جيلًا بعد جيل، في مشاهد تزيد من تجذر الفلسطينيين بقضيتهم.
لك يوم يا مخيم اليرموك!
“أبو عبد الله” الشيخ؛ مهجر من فلسطينيي مخيم اليرموك إلى مخيمات “أعزاز” شمالي سورية، قال في حديث لـ “قدس برس”، “عندما بدأت الحافلة بالتحرك ضمن قوافل التهجير لم أستطع للوهلة الأولى تحديد طبيعة المشاعر التي كانت تختلج في صدري، كنت أنظر عبر النافذة وأحدق في اللاشيء!”.
وأضاف: “وحدها الذكريات كانت حاضرة؛ حلقات جامع الوسيم ومدرسة الكرمل وشوارع حيفا وصفد والمدارس وشارع اليرموك المزدحم.. الأسواق المتألقة الأمسيات الثقافية مسيرات الشهداء والمناسبات الوطنية..”.
وتابع أبو عبد الله: “كلما كانت الحافلة تسرع كانت مشاهد الثورة تتوالى تباعًا على زجاج النافذة، وكأن مشهد المسيرات كان برزخا بين عالمين”.
ويسرد بعض من تفاصيل لا تغادر مخيلته: “مجزرة جامع الحسيني أواخر عام 2012، المجاعة نتيجة الحصار، عشبة إجر العصفور الغير صالحة للأكل والتي أصبحت طبقًا رئيسيًا، تفجير ساحة الريجة، مقتل ابن أخي قنصًا على مدخل المخيم.. جموع السائرين نحو ساحات التهجير إلى المجهول!”.
وأردف: “لقد عاينت ما كان يحدثني به والدي عن التغريبة الفلسطينية في الـ 48، لقد عشناها واقعًا وذقناها مرارة وعلقمًا، عند تلك اللحظة عرفنا اليوم الذي قصده شارون وهددنا به”.
عاصمة الشتات المتناثرة!
ويبقى تساؤل مهجري “اليرموك”: “هل انتهت الحكاية وطويت صفحة من صفحات الحشد الفلسطيني النضالي والفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، هل قدمت عاصمة الشتات قربانًا لـ”إسرائيل” على مذبح التحولات السياسية؟.
أين تناثرت روح المخيم، ذلك الإرث النضالي بمفكريه ومثقفيه وسياسييه ومناضليه وفقرائه؟! هل يمكن أن ترد هذه الروح إلى ذلك الجسد المهشم عمرانًا وفكرة وقضية؟ أم أن مخطط “باسيليا سيتي” (مخطط لإنشاء مدينة جديدة حول العاصمة دمشق)، ستقطع أمل العودة في سياق التغيير الديموغرافي في محيط العاصمة بما لا يقلق أحدا؟!
بين هذه التساؤلات والبحث عن أجوبة لها، يفيد “مراسلنا”، إلى أن هنالك أكثر من 350 ألف لاجئ فلسطيني من أبناء المخيم تفرقوا في عدة أماكن داخل سورية وخارجها.
غير أن ملامح التهجير القسري الذي طال معظم أبناء المخيم تتجلى صوره في مخيمات أعزاز شمال حلب ومخيم دير بلوط بناحية جنديرس جنوب عفرين، بينما نزح قسم لا بأس به إلى مدينة إدلب وقرية أطمة الحدودية بالإضافة إلى بعض الأسر التي توزعت في مناطق متفرقة في الشمال السوري، بينما شق غيرهم الطريق إلى تركيا وأوروبا من بعدها.
ولا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد المهجرين الفلسطينيين في الشمال السوري، بحسب أماكن تواجدهم، إلا أنه من المؤكد، وبحسب هيئة فلسطينيي سورية للإغاثة والتنمية العاملة في إدلب، فقد بلغ عدد الأسر الفلسطينية المهجرة قرابة الـ 1500 عائلة؛ نصفهم من مخيم اليرموك ويعيش أغلبهم أوضاعًا إنسانية صعبة كالتي عاشها آباؤهم وأجدادهم في ظل خيمة!.