في ختام المقال الأول، ذكرنا حديث صحيح مسلم الذي يوصي به رسول الله صلى الله عليه وسلم المحاربين بالوصايا الحضارية الراقية التي ما سمعنا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ تبناها، أو حضارة من الحضارات عملت بها في مواقع ومواقف الحرب، وكما شرعها الإسلام.
من هذا الحديث نفهم أن دين الإسلام دين القوة والرحمة والعدالة، وفي الوقت نفسه هو ليس دين الكهنة والكهنوت أو “الدروشة” كما يريد أدعياء العلمانية وأهل الداء العضال الإقصائيون للفكر الإسلامي والدين عموماً، أو كما يريد الماسون، وقول النصارى: “إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر”! فهذا الأمر لا يوجد في الإسلام، وإن وجد فهو يخص الشخص، يعفو عن المعتدي عليه أم يحاسبه قانوناً.
هؤلاء الانتقائيون لا همَّ لهم إلا العمل من أجل تسطيح المشروع الإسلامي، وذلك كالذي قال: ما بال محمد صلى الله عليه وسلم، لا همَّ له إلا كيف تدخل الحمام، وكيف تخرج من الحمام! فهذا ما يملكه هؤلاء من فكر ونظر.
نعم، تركوا تكامل المنهج وعظمته، وما وقع فكرهم ومنهجهم إلا على ما يوافقهم فكراً ورؤية وتربية ثقافياً ومنزلياً، نسأل الله السلامة والعفو والعافية!
الغريب، حقيقة، أن هؤلاء يستشهدون بآيات قرآنية ويستدلون بها على مثلبة الإسلام ومنهجه في الدعوة والانتشار كما يتوهمون لإيهام غيرهم! وذلك بإيهام المقابل بعدم نضوج وعدم قدرة الشرع الإسلامي مجاراة الحداثة والعصور والزمان وتطورها كما يدعون!
من أدلتهم مثلاً على دموية الإسلام وإرهابه قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: “نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ”، هذه النصوص يتم انتقاؤها من مجموعة نصوص تتكامل من خلالها الفكرة والدعوة الإسلامية، ومن خلالها يظهر التحضر المدني العقائدي الإسلامي الراقي، فيجتزئون منها ما يوافق هواهم انتقاءً، وكأنه هو الدين والإسلام فقط، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على خلل في التفكير والمنهج النقدي الذي يتبنونه، هذا إذا أحسنا الظن فيهم، نسأل الله السلامة، وإذا تحدثت معهم وسألت: هل أنت تعني أو تفهم ما تقول؟! يجاوب بالإيجاب، وإذا بينت له خطورة الموقف بأنه يستشهد بالقرآن لبيان سوء منهج القرآن والعياذ بالله، ويستشهد بالسُّنة الصحيحة لبيان سوء منهج السُّنة النبوية وبانتقائية، فأي إسلام بعد ذلك يتبقى لو كانوا يعلمون؟!
نعم، فضرب القرآن بالقرآن لا يُقر به سويّ العقيدة والدين، نسأل الله السلامة، وإذا بيّنت له ذلك وأنها زندقة كما بيّنه العلماء، شنع عليك أنك تتهم الآخرين بالتكفير والتبديع!
أنا لا أتحدث هنا من باب بيان أخطائهم أو عدم ذلك، فالخطأ واضح لا يخفى، ولكن أود أن أوضح الانتقائية عند الأهواء وعبّادها، والبعض ينخدع دون أن يعلم، وأحياناً لمكاسب سياسية يقع بالكوارث، وخصوصاً إذا ما علمنا بداية من الفئات التي ذكرناها الخمس كيف تدخل مرحلياً في إقصاء الإسلام سياسياً ومن ثم الوصول إلى المرحلة الثانية والهدف الأم، الإقصاء الكلي للإسلام من مناحي الحياة عموماً بصفته دين السيف والإرهاب والدماء، وظلم الأقليات وهو دين الرجعية والتخلف!
الإسلام دين متكامل، دين الترغيب والترهيب، وآياته المتنوعة تدل على منهج حضاري كبير، منطلق من عقيدة سماوية منهجها التكامل الذي يشمل الحياة والقدرات الإنسانية وتكاملها التخصصي، ولنضرب الأمثال لبيان الفكرة بشكل أكثر دقة، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العلق) تأصيل العلم بالقراءة وطلبه وتدوينه ورؤيته، ويقول تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28)، ويقول تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ) (الأعراف: 185)، ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة: 73)، ويقول الله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) (الحج: 67)، ويقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (السجدة: 27).
هذه نبذه وتشكيلة متنوعة من الآيات القرآنية تدل على تكامل المنهج من حيث العمل والتفكر، وهي شيء يسير من كثير، ولو استطردنا نجد كل آية من آيات القرآن تسد مسداً فكرياً أو حضارياً أو نسكاً، أو عبادة أو توحيداً وعقيدة أو حكم مواريث، أو حكماً شرعياً أو عبادياً، أو حرباً أو تعاملاً مع مسلم أو غير مسلم سلماً وحرباً، وهكذا السُّنة النبوية كذلك.
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هذا المنهج لا يستطيع أن يأتي به المخلوق مهما كانت قدراته، بهذا التكامل الكبير والمتشعب في كل التوجهات والتخصصات، ومع ذلك؛ يأتي هؤلاء الحداثيون ويستشهدون بالمنهج سلباً على نفس المنهج! وهنا الكارثة، نسأل الله تعالى السلامة، وينتقي من التنوع الذي ضربناه مثلاً بما يخدم مطلبه، علماً أن الآيات فيها الحث على التفكر، والحث على طلب العلم، وفيها بيان النسك وغيرها، فيأتي هؤلاء وينتقون ما يريدون لنسف الدين والحضارة الإسلامية كلية، وهذا منهج خطير ودقيق من حيث الفتنة، ومن حيث البيان فيه أيضاً صعب، وأنا لا أريد أن أبين في الفتوحات الإسلامية ما الذي فعله المسلمون من تعامل إنساني مع العدو، فكتب التاريخ مليئة بذلك، نعم.. ما أود ذلك بقدر ما أود أن أبيّن أن من يكون منهجه انتقائياً بهذه الطريقة يجب الإعراض عنه، لأنه منهج فتان انتقائي، وأيضاً ينتقي طلابه وهم في الغالب يكونون من أهل البدعة، ولديهم الكثير من الزوايا العمياء في هذه الأمور وهذا المضمار، والوقت مهم في نشر الفتنة، وحتى تصل المعلومة وتتضح الحقيقة، تكون الفتنة أخذت موقعها ومجراها في المجتمع أو في بعض أفراده، خصوصاً إذا ما وجد من يروج لها من أصحاب الانحراف الفكري من علمانيين وماسونيين، وأهل بدع من أهل الداء العضال.
والغريب تأتيك نوعية من أدعياء المعرفة المجزأة يتمادى ويتعالى على الدين على أنه دين السيف والدماء، ولا يقبل منك الأخذ والرد في الأمر، وفي هؤلاء قال أستاذنا سالم البهنساوي يرحمه الله تعالى: “هناك جاهل يحتاج المعرفة تعرفه من طبيعة كلامه وسؤاله، وهناك جاهل أحمق يتعالى بما لديه فأعرض عنه”.
أخيراً، لعلك تتساءل: وهل ذكر القرآن الكريم هذه النوعية من أهل الفتن؟ نقول: نعم، ونختم بهذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7).
اللهم اجعلنا من أولي الألباب.
يتبع..
_______________________
(*) إعلامي كويتي.