توقفنا في المقال السابق على ما قاله ابن المنير وتعليقنا عليه.. نعم.. وذلك في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “الحرب خدعة”، فقال ابن المنير: “إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة من غير خطر”.. انتهى.
إذاً هي الحرب الناعمة كما يفعل بنا العدو اليوم بحربه الناعمة إعلامًا وسينما وخبراً، وتحليلاً، وخداعاً، وتمثيلاً، ويعمل من خلال هذه الحرب الناعمة على تجهيز ساحة المسلمين للإجهاز على إخوانهم المسلمين في غزة للقضاء على الدين والإسلام وعلى “حماس” و”القسام” بالحروب الصلبة، وهو (العدو) يتفرج على أهل الرعونة والاندفاع الذي صنعه فيهم من خلال وسيلته التي يستعملها.
نعم أيها القارئ الكريم، فهذه هي الحقيقة، وهذا ما عمل به العدو، عمل بالقوة الناعمة بفنية عالية وبنفس طويل لخداعنا، الذي بالأصل والحق كان يجب أن نعمل به نحن كحديث ووصية أوصانا بها نبينا صلى الله عليه وسلم: “الحرب خدعة”، وأن يكون هذا النص أرضية لنا نستند إليها للانطلاق وتأسيس المؤسسات لذلك، ولكن قصر النظر وضيق الأفق كارثة عقلية!
علم العدو كيف هو التعامل معنا، فنظر إلى سجالنا وتعالينا وتعالمنا على بعضنا وفهمنا المحدود جداً والضيق للنص، فعلم أننا في مرحلة الغثاء! والاندفاع باسم التعالم والتذاكي! فعمل بمفهوم الحديث، الفهم المطلق الدقيق؛ وبكل تشعباته وما تتوالد منه من ابتكارات وفنون للوصول إلى “الخدعة” وتفوق علينا إعلاماً بكل جوانبه وعلومه، وخصوصاً الدراما منها والتمثيل، لنقاتل بعضنا بحروب صلبة، وهو يحرك العرائس بجيوشه أو حروبه الناعمة، ومع ذلك وصل إلى مرحلة لا أتصور أنه كان يتوقعها العدو نفسه أن يصلها، وهي أن يحل المسلم قتل أخيه المسلم من أجل رضا صهيوني مغتصب!
وحينما نرى ونتابع ما يحصل بالعراق وسورية واليمن ندرك تماماً فنية العدو وقدرته الرائعة في إدارة هذه الفنون ونيل مطالبه ومآربه بلا خسائر وأذى، وندرك مدى جهلنا فيها، وإهمالنا لها تحت ذرائع ما أنزل الله بها من سلطان، حسب وجهة نظري!
من فهم هذه الرواية تطبيقاً “الحرب خدعة”، تخلص المسلمون من أعدائهم في فن التنكر والتمثيل كما فعل الصحابي محمد بن مسلمة رضي الله عنه في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف، صنع الصحابي سيناريو للوصول إلى الهدف، وكان ظاهره شيئاً وباطنه معاكساً للظاهر، وكما قال ابن حجر في فتح الباري: “أصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافه وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار، وإن لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه”، وهذا المعنِىّ به في حدوث وحدود الحرب، ولا يخص المعايشة السلمية والسلم والمعاهدات وما شابه ذلك.
نعم، كان بين محمد بن مسلمة تفاهم على سيناريو مع من معه، واختيار نوعية الممثلين معه الذين هم أقرب إلى رضا ابن الأشرف؛ ومن ثم اطمئنانه، واتفق مع مجموعته بقوله لابن الأشرف: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فقال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه رضي الله عنهم وأرضاهم.
في هذه الحادثة لا أقصد الشخص المعني بخداعه، ولا أعني العملية أو عين النتيجة، ولكنني أعني الوسيلة وما تتطلبه من آليات مساعدة وابتكارات، لرسم طريقة الخدعة وأسلوبها للوصول إلى الهدف بشكل أسرع ومن غير أي خسائر، وقد قبلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل حض عليها صلى الله عليه وسلم من غير تفصيل في نوعية الحرب، وطبيعتها، أرجو أن يفهم هذا ولا يتطفل علينا أحد من متعالمي الكهنوتية؛ ويتعالم علينا ويتذاكى.
هي كانت حرب إعلامية بدأ بها ابن الأشرف طعناً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعامل معه بنفس المنهج ولكن بفنية أعمق وأقوى وبنوع من الفنون له أثر أقوى خداعاً للعدو، ورقياً للسلم والنفس وهو “سيناريو التمثيل والدراما” في إطار الخدعة.
وبما أن الحروب دخلت مجال النعومة؛ أي “الحرب الناعمة”؛ أي تسخير الأعلام والبرمجة للشارع من خلاله، يكون لزاماً علينا التركيز على هذا العلم الخطير (الإعلام) الذي أبرز شعرة في رأسه وأكثرهم تأثيراً فنون الدراما، نعم.. ليس من الفطنة والكياسة -في رأيي- الإعراض عنها بدعوى أنها حرام لأنها كذب، فهذا لا أراه مناسباً قبولاً، وفيه الكثير من الغفلة في فهم الوسيلة، وفي فهم العدو، ومن ثم إعطائه كرامتنا على طبق من ذهب من أجل إهانتها ومسخها.
في المقال القادم، سنبدأ متطرقين إلى سيناريو محمد بن مسلمة في خداعه لكعب، وإن كنا تطرقنا له، ومن ثم ننتقل إلى العنصر رقم (3).
(حاول أن تجمعها ليتكامل الموضوع عندك)
____________________________
(*) إعلامي كويتي.