نبي الله إبراهيم عليه السلام من أولى العزم من الرسل، وهو أبو الأنبياء وخليل الله تعالى، ذكره ربُّه مادحًا له فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ﴾ [النحل: 120]؛ أي: إمامًا يقتدي به، ومعلمًا يعلم الناس الخير، وقد قص الله تعالى علينا كثيرًا من قصصه في القرآن الكريم، وذكر لنا نبينا عليه الصلاة والسلام كثيرًا من أخباره؛ لنأخذ منها الدروس والعبر، ونسير على منهجه في حواره مع قومه وإنكاره شركهم، وعبادتهم للأصنام والكواكب، فقد كان كثير الصبر قوي الحجة، بليغ في المحاورة لقومه، شديدًا في الإنكار عليهم ما يعبدون من دون الله، أُرسل إلى قوم مشركين صابئة في بابل من بلاد العراق، وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فكان يكثر من محاورتهم ومجادلتهم والنقاش معهم؛ ليقيم عليهم الحجة، وليبطل معتقداتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى، ويثبت لهم أنهم على ضلال وغواية، فذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى جملة من حواراته معهم ونقاشه لهم، وكان من جملة من ناقشهم وحاورهم والده آزر الذي ابتلى بعبادة الأصنام، بل إنه كان هو من يصنعها وينحتها ليعبدها الناس، وهذا الحوار فيه من الآداب الكثيرة في كيفية التعامل مع الآباء والتأدب معهم غاية الأدب، وبيان الحق لهم بأسلوب فيه من الشفقة والرأفة وحب الخير لهم والحرص على هدايتهم، وسوف نأخذ حوار إبراهيم مع أبيه في سوره المائدة حيث ذكر لنا ربُّنا ذلك الحوار الراقي والنقاش الهادئ في آيات يجب علينا أن نتأمَّلها وأن نقف معها لنأخذ منها العبرة والعظة.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 41 – 48].
فهذه الآيات تبين لنا جملةً من الآداب القرآنية في كيفية التعامل مع الآباء ودعوتهم إلى الحق، حتى وإن كانا مخالفين لنا في الدين والعقيدة، فهذا لا يزيل حق الأبوة عنهما أو يكون مانعًا من برِّهما والإحسان إليهما، وإبراهيم عليه السلام ذكره الله في القرآن نموذجًا للبر، ومثالًا لحسن الأدبِ مع الوالدين، وهو نبي من أولى العزم منهم، فمن أدبِ الحوار مع الآباء.
1- التعظيم لهما وتبجيلهما وإنزالهما منزلتهما الرفيعة العالية.. وقد أمر الله تعالى المسلمين بالقول الحسن في دعوة الناس إلي الإسلام، فكيف إذا كانوا آباء فهم أولى بهذا الإحسان، وانظر إلى نصائح نبي الله إبراهيم وكثرة تصديره هذه النصائح بقوله: ﴿يَاأَبَتِ﴾ مبالغة منه بالتعظيم والاحترام.
2- التأدب معهم غاية الأدب فهما سبب وجودك في هذه الحياة، وبرهما أعظم أمرٍ بعد توحيد الإله، فقد أمرنا في كثير من الآيات بالإحسان إليهما: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، وأمرنا بمصاحبتهما بالمعروف ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، ويدخل في هذا جمله عظيمة من الآداب معهما، ومنها مخاطبتهما بلطف وأدب وعدم رفع الصوت عليهما أو الرد عليهما بغضب وعبوس وجه وعدم رضا.
3- التلطف معهما بالعبارة ولو رآهما على معصية فعند دعوة الآباء على الأبناء أن ينتقوا أفضل العبارات وأرقها وأن يكثروا منها في حديثهم معهم فهي أولى لترقيق قلوبهم وتطيب خواطرهم فإبراهيم عليه السلام في حواره مع أبيه كان يقدِّم نصه بقوله: ﴿يَاأَبَتِ﴾ التي تدل على الشفقة والحبِّ.
4- أن يتجنب الكلمات والعبارات التي قد تجرحهما وتضايقهما، فقد يكون ذلك من العقوق لهما فالله تعالى نهانا عن أن نقول لهما (أُفٍّ) وهي كلمه بسيطة فقال: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، بل إنه سبحانه أمرنا أن نقول للناس حسنًا وأن ندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فكيف إذا كان مع الوالدين فهو من باب أولى، وهذا إبراهيم عليه السلام لم يزد عن قوله عندما نهره أباه وأمر بطرده ورجمه على قوله: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47].
5- أن يبدأ معهما بالأمور الكبيرة المهمة كالتوحيد ويحرص عليه غاية الحرص، وأن يبين لهما الطريق المستقيم السوي ﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 43]، وأن يسلك في دعوتهم كل الطرق المناسبة، وأن يتخير الأوقات الملائمة، ويحرص على أن يخلص قلبه ويتوجه إلى الله تعالى بأن يشرح صدورهما، أمَّا في الأمور الصغيرة التي قد يسع الاختلاف، والانكسار عليهما مما يثير الجدال ويخشى من المفسدة المترتبة عليه فإنه يدعه ويتركه، فاستدامة المحبة أولى منه.
6- أن يذكر لهما الأدلة العقلية والنقلية على الأمر الذي يأمرهم به أو ينهاهم عنه، فإبراهيم عليه السلام عندما دعا أبيه لترك عبادة الأصنام ذكر له أن هذه الأصنام لا تعقل، ولا تسمع، وأنها لا تملك لنفسها ضرًّا فكيف تدفع عن الآخرين، وحاول إبراهيم أن يعمل عقل أبيه: أليست هذه الأصنام أنت صنعتها ونحتها، فكيف تعبد ما تصنع أنت بيدك وتتخذه إلهًا؟ إن هذا ضلال وبعد عن الصراط المستقيم، ثم جاءه بالأدلة التي تدعم قوله وبيَّن له أن هذه الكواكب خلٌق من خلق الله تعالى لا تنفعُ ولا تضرُّ وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الداعية ملمًّا بالحجج العقلية والنقلية، فبعض النفوس لا تؤمن إلا بما ترى أو تحس به.
7- أن لا يرفع نفسه عليهما أو يقدم ذاته أنه أعلم منهما، وأن لا يتفاخر أمامها أنه أفضل منهما وأنهما أقل منه علمًا أو ذكاء فإبراهيم عليه السلام قال لأبيه: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم: 43]، فلم يقل له إني أعلم منك وأنت جاهل لا تفقه وإني نبي، بل نسب ذلك لله تعالى، فخرج من قوته وحوله إلى علم الله تعالى فقال: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ فليس هذا من جهدي أو ذات نفسي وإنما أنا مختار من ربي فأودع عندي من العلم مالم يبلغ أحدًا غيري فأطعني واسمع قولي تفلح وتهتدي.
8- أن يكثر الدعاء لهما والاستغفار لهما في حياتهما وبعد موتهما إن كانا مسلمين، فالدعاء من أقوى الأسلحة وأنفعها إذا استحكم أمر ارفع يديك إلى السماء، واسأل الله تعالى فإنه إن رأى قلبًا صادقًا استجاب له، فهذا إبراهيم عندما دعا أباه وترفق في دعوته، وكيف كان صدود أبيه وشدته معه لكنه لم ييأس أو يضعف ففوض الأمر إلى الله فقال: سأدعو لك ربي واستغفر لك عنده لعله أن يغفر لك ويهديك فقال: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: 47] أي لطيف بي يستجيب دعائي سبحانه.
وهكذا ينبغي على الأبناء والدعاة أن يتأمَّلوا في قصة إبراهيم مع أبية وقومه ففيها من الوسائل التربوية، وبيان كيفية المناقشة والحوار لمن هم على غير الملة الشيء الكثير، فلنحرص عليها ونتعلم منها فالله – عزَّ وجلَّ – لم يكررها في كثير من السور عبثًا أو دون فائدة.
______________________
المصدر: “الألوكة”.