يعد الاقتصاد –في ضوء السياقات العالمية المعاصرة- أبرز مؤشرات استقلال إرادة الأمم؛ حيث جاءت السياقات العالمية بصورة مكثفة في دفع قيمة المال ومتعلقاته كقيمة عظمى تتبعها بعد ذلك قيم أخرى، وصدرت تقارير التنمية الدولية التي جعلت المؤشرات الاقتصادية -سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة- هي معيار التنمية الرئيس، كما أنشأت الصناديق الدولية للاقتراض بغرض معلن مساعدة الدول الفقيرة، وبغرض خفي في عرف المعلن وهو تبعية الدول الفقيرة أو التي يراد إفقارها.
تنقسم مقومات الاستقلال الاقتصادي في العالم الإسلامي –الذي يزخر بالتناقض بين دول ذات عوائد اقتصادية هي الأعلى، وأفقر مناطق العالم إلى ثلاثة أقسام: المقومات المعنوية، المقومات البشرية، المقومات المادية.
أولاً: المقومات المعنوية للاستقلال الاقتصادي:
نقصد بالمقومات المعنوية المبادئ والأسس التي يقوم عليها النشاط الاقتصادي في المنهج الإسلامي، وهذه المبادئ لا يخلو منها نشاط اقتصادي أياً ما كان اتجاهه الفكري، كما أن تلك المبادئ تحدد التصور الجمعي للمجتمع والأمة نحو النشاط الاقتصادي، ومن ناحية أخرى تمثل نقطة انطلاق النشاط الاقتصادي نحو الواقع امتثالاً لتلك المبادئ، ومن ناحية ثالثة فإن القوانين واللوائح المنظمة لهذا النوع من النشاط تكون انعكاساً لهذه المبادئ التي يؤمن بها المجتمع وتصدر من عقيدته.
وتتمثل أسس النشاط الاقتصادي في الإسلام فيما يلي:
نظام المال في الإسلام يقوم على أساس الاعتراف بأن الله هو المالك وله وحده حق تنظيم التملك
أ- تصور الملكية والمال:
يقوم تصور الملكية والمال (عماد النشاط الاقتصادي) في التصور الإسلامي على(1):
1- الملك لله وحده: فالكون بكل ما فيه وبدون أي استثناء مملوك لله تعالى وحده على وجه الحقيقة والخلوص، فلا شريك لأحد معه في ذرة منه (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17}) (المائدة: 17).
2- المال مال الله: والمال –هو ما يتموله الناس ويستفيدون منه ويمكن إحرازه– هو من جملة ما في الكون؛ فهو إذن لله وحده، وإن الله تعالى هو مالكه الحقيقي؛ (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33).
3- الملك المجازي للإنسان: ومع أن الملك الحقيقي هو لله رب العالمين، فقد أذن الله تعالى للإنسان بالانتفاع بالمال والتصرف فيه وإضافته وتسميته مالكاً له (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 28).
4- استعمال المال في مرضاة الله: وكل ما يؤتاه المسلم من مال يجب أن يستعمله في مرضاة الله، لتحقيق الغاية التي خلق من أجلها وهي عبادة الله تعالى ليظفر بالحياة الطيبة في الآخرة، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
ب- مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي:
في ضوء التصور السابق، أرست الشريعة الإسلامية عدة مبادئ في مقاصد ممارسة النشاط الاقتصادي في الإسلام نبينها فيما يلي(2):
الأول: ألا يكون المال متداولاً في أيدي الأغنياء دون الفقراء:
قرر القرآن الكريم هذا المبدأ في نص صريح: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7)، ويقصد به: كراهة انحباس الثروة في أيدي أقلية في الجماعة، وضرورة تعديل هذه الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطاً من المال ليكون هناك نوع من التوازن؛ ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر مثار مفسدة عظيمة، فوق ما يثير من أحقاد وأضغان.
منْعُ الربا يحول دون تضاعف المال بذاته ويعطي العمل قيمته في الإنتاج ويحقق العدالة بين الجهد الحقيقي والجزاء
الثاني: تحريم الربا:
يحرم الإسلام الربا؛ لأنه صورة من صور الفساد الأخلاقي والاقتصادي، يقول تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).
هذا المبدأ الأساسي في الإسلام يحول دون تضاعف المال بذاته، كما يقع الآن في النظام الرأسمالي، ويضع قيداً ضخماً في طريق تضخم الثروات على حساب حاجة الأفراد أو الشركات للمال، واضطرارهم لاستدانته بالربا، ويعطي العمل قيمته في مجال الإنتاج، ويحقق العدالة بين الجهد الحقيقي والجزاء، ويمنع أن ينال القاعدون الكسالى جزاء لا يستحقونه.
الثالث: تحريم الاكتناز:
الاكتناز في الإسلام هو «المال الذي جمع وحبس ومنعت منه حقوقه كالزكاة والصدقة»(3)؛ لذلك جاء تحريم هذا الاكتناز في كتاب الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة)، وحكمة الإسلام من هذا التحريم تظهر جلية في كونه عملاً يقوم على تعطيل الأموال وعدم استثمارها وتداولها؛ قصد جلب المنافع، ذلك أن هذا التداول هو الذي يولد الرخاء الاقتصادي بين أفراد المجتمع؛ لأن دوران المال في الأيدي يعود بالنفع على الجميع، خلافاً لكنزه الذي يحجب منفعته عن الآخرين، ولا يستفيد منه الكانز؛ لأنه دفنه في خزائنه فلم يحقق به منفعة، وإنما نال إثماً وارتكب معصية(4).
الرابع: تحريم الاحتكار:
الاحتكار في الاقتصاد الوضعي هو «السيطرة على عرض أو طلب للسلعة، بقصد تحقيق أقصى قدر من الربح»(5)، أما في الاقتصاد الإسلامي فهو “جمع أو حبس السلعة التي يحتاج إليها الناس لبيعها بثمن مرتفع، أو لخلق نوع من الندرة وعدم الاستقرار”(6)؛ ما يؤدي إلى تحكم المحتكر في ثمن السلعة وفرض السعر الذي يراه؛ لذلك حرمه القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة، قال صلى الله عليه وسلم: “من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله عز وجل بجذام أو بإفلاس”(7)؛ فالاحتكار يمثل وسيلة مهمة من وسائل تحقيق الخلل الاقتصادي في المجتمعات، كما أنه يؤدي إلى تضخم الثروات بطرق سهلة وبسيطة.
الخامس: تحديد شكل الملكية:
حدد الإسلام ثلاث صور من أشكال الملكية: الملكية الفردية، وملكية الدولة، والملكية العامة، وتشير الأدبيات في الاقتصاد الإسلامي إلى أن هذه الصور الثلاث ليست متنافسة فيما بينها، ولكنها متعاونة لتحقيق الخير العام للمجتمع.
السادس: الزكاة:
تعد الزكاة مرتكز نظام المال في الإسلام، فهي بمثابة العمود الفقري فيه، إذ إن نظام المال في الإسلام يقوم على أساس الاعتراف بأن الله هو المالك وبالتالي الاعتراف بأن له وحده حق تنظيم قضية التملك والحقوق فيه ومآله، والزكاة هي التعبير العملي عن هذا كله(8).
السابع: ملاءمة الشريعة للتطورات والمستجدات:
رغم أن الشريعة الإسلامية تقوم على ثوابت في التعامل مع المال والنشاط الاقتصادي بصفة عامة، ومن ذلك ما تعرفه الشريعة بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، فالمصالح المرسلة هي المصالح التي لم يشرع الشارع أحكاماً لتحقيقها، ولم يقم دليل معين على اعتبارها أو إلغائها، وهذا المصدر يتسع للأحداث الجديدة والوقائع المتطورة، أما الذرائع فمعناها الوسائل؛ فإذا كانت الوسائل مفضية إلى الحرام والفساد كانت هذه الوسائل محرمة ووجب سدها ومنعها حسماً لمادة وسائل الفساد، وإن كانت هذه الوسائل تؤدي إلى أمر مطلوب في الشرع كانت هذه الوسائل مطلوبة أيضاً.
هذان المبدآن يمثلان دائرة مهمة في النظام الاقتصادي الإسلامي، يكون بهما تحقيق كافة مصالح الجماعة ودفع كافة الأضرار التي يمكن أن تحيق بها، كما أنهما يمنحان الإمام في الدولة المسلمة سلطة لدفع المضار الاجتماعية وجلب المنافع بما يكون للجماعة حق في ملكية الفرد، بما يحقق الأمن والاستقرار العام في الدولة.
فللإمام الحق في فرض فريضة أخرى في أموال الأفراد –غير الزكاة– لسد أبواب المفاسد أو جلب المنافع كإشباع حاجات الفقراء ومساعدتهم، أو مساعدة طلاب العلم غير القادرين أو إقامة مصانع أو مدارس ومعاهد وكليات.. إلخ، بما تحتاجه الدولة احتياجاً شديداً ولكن مصارف الدولة وبيت المال غير قادرة على إشباع هذه الاحتياجات، أو إعداد الجيوش وتجهيز المرابطين لصد غزو الأعداء.. إلخ.
وهذا كله من أجل رعاية الصالح العام وتحقيق العدالة الاجتماعية الكاملة، ولا يعني جوراً على الملكية الفردية التي أقرها الإسلام؛ «فمبدأ حق الملكية الفردية في الإسلام لا يمنع تبعاً لهذا أن تأخذ الدولة نسبة من الربح أو نسبة من رأس المال ذاته، على أن تظل قاعدة النظام الإسلامي مرعية، وهي أن تكون للناس ملكياتهم الخاصة، واستثماراتهم الخاصة مقيدة بطرق التنمية المشروعة، وأن يكون التوظيف في الأموال الخاصة، بقدر الضرورة حتى لا تستوحش قلوب الناس ولا تفتره همتهم، ولا يقل اهتمامهم بتنمية الثورة وتحسين الإنتاج»(9).
الثامن: تجديدات الشريعة في النشاط الاقتصادي:
إن المبادئ والتصورات التي تحكم النشاط الاقتصادي في الإسلام ثابتة لا تتغير، باعتبارها مقومات وأصولاً يستمد منها النظام الاقتصادي قواعده وأسسه، الذي يتغير هو نمط التفاعل مع المتغيرات التي تحدث سواء بتغير الزمان أو المكان، اعتماداً على الأصول والمبادئ التي تحكم هذا التفاعل، ومن تفاعلات الاقتصاد الإسلامي مع المستجدات الإسهام في القضايا التالية:
1- بيع المرابحة:
المرابحة في اللغة: مفاعلة من الربح وهو النماء في التجارة يقال: نقد السلعة مرابحة على كل عشرة دراهم درهم، وكذلك اشتريته مرابحة، ولا بد من تسمية الربح، والمفاعلة هنا ليست على بابها؛ لأن الذي يربح إنما هو البائع، فهذا من المفاعلة التي استعملت في الواحد كسافر، وعافاه الله، أو أن مرابحة بمعنى إرباح؛ لأن أحد المتبايعين أربح الآخر، واصطلاحاً: فهي بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح معلوم(10).
والمرابحة بيع من البيوع، ويشترط لها ما يشترط للبيوع من “الانتفاع مما يباع، وملكية العاقد له، والقدرة على تسليمه والعلم به، وكون المبيع مقبوضاً”(11)، ولكي تقع المرابحة صحيحة لا بد لها من توافر الشروط الآتية:
– أن يكون الربح معلوماً لأنه بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط صحة البيع.
– أن يكون رأس المال من ذوات الأمثال.
– ألا يكون الثمن في العقد الأول مقابلاً بجنسه من أموال الربا.
– أن يكون العقد الأول صحيحاً، فإن كان فاسداً لم يجز بيع المرابحة.
فالمرابحة وشروطها في الإسلام تقوم على الاحتراز من الخيانة والغش بما يساعد ويؤثر في إرادة المشتري ويزيد من رغبته في الشراء، كما أنها تمنع التلاعب بالأسعار، ويؤدي إلى الثقة بين المتعاقدين، بما يزيد من قوة الاستثمار، ولعل هذا علاج لأوجه الغش التي تمارسها شركات دولية عن طريق عملية صناعية وتجارية مشهورة، هي التقليد وبيع الشيء المقلد على أنه أصلي، كما أنها تمنع الكثير من الجرائم التصديرية.
2- انتقال العنصر البشري:
يعد انتقال العنصر البشري بين دولة وأخرى لأي غرض من الأغراض أحد الجوانب الرئيسة للعلاقات الاقتصادية الدولية المعاصرة، «والإسلام يجيز العمل الاقتصادي للمسلم لدى غير المسلم، مثل عمله في مزارعه وصناعته وتجارته، طالما كان موضوع العمل أو مجاله سلعاً وخدمات مباحة شرعاً، وطالما أن ممارسة النشاط الاقتصادي لا تتم بأساليب وصيغ محرمة، كما يجيز عمل غير المسلم لدى المسلم، بل إنه ليطالب المسلمين بالاستفادة من خبرات ومهارات وقدرات ومعلومات غيرهم، طالما أنها غير متوفرة لديهم، وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بمشرك لديه خبرة بالطرق الصحراوية خلال هجرته»(12).
3- التأمين التعاوني:
يقدم الفكر الإسلامي صورة بديلة للتأمين التجاري، الذي يوجد فيه شبهة الغبن والقمار والربا والرهان المحرم، فيقدم صورة التأمين التعاوني، الذي يقوم على الاعتبارات الآتية(13):
أ- إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر؛ فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون التجارة، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
ب- خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: الفضل والنسيئة.
جـ- لا يضر –التأمين التعاوني– جهل المساهمين بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون؛ فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة.
د- قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط؛ لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين.
4- صيغ الاستثمار الإسلامية:
قدم –أيضاً- الفكر الإسلامي صيغاً جديدة للاستثمار، يراعى فيها مبادئه وتصوراته وغايته، متمثلة في إنشاء المصارف الإسلامية التي انتشرت انتشاراً كبيراً في البلاد الإسلامية وخارجها، كما قدمت هذه البنوك منهجاً جديداً للتعامل الاستثماري –بدلاً من أسلوب تمويل القروض– فتقوم هذه المصارف بتمويل المشروعات عن طريق تمويل عوامل الإنتاج، ولا يزيد الدين بحال عن جحيم الإنتاج أو التجارة، ومن ثم فإن المشروع يحمل ضمانة من داخله، وبذلك فإن يجد التضخم في ظل هذا النظام تراقب البنوك الإسلامية مقترضيها بل وتشاركهم في الإدارة؛ لأنها لا تقف منهم موقف الدائن بل موقف الشريك والمساهم، ومن ثم فإن تعثر أصحاب المشروعات وجدوا من يقفون إلى جانبهم بالتوجيه والتمويل وشد الأزر، وهو ما يسهم بجد في التنمية الوطنية والعالمية، وفي النظام الإسلامي تخصص الموارد وفقاً لمعايير الإنتاج والتجارة وهو أكثر توجهاً نحو التنمية والنمو، ومن ثم فإن القطاع المالي يظل متسقاً ومنسجماً مع الأساسات الاقتصادية(14).
والبنوك الإسلامية –أيضاً– تقوم أساس معاملاتها على نظام المشاركة والمضاربة والاستصناع والإجارة وتمويل التجارة الحقيقية، وهي تسهم جميعها مساهمة حقيقية في الإنتاج، ويتحمل الطرفان معاً نتائج الربح والخسارة؛ ففي حالات الرواج لا يستأثر طرف بجل الربح وحده ويحرم الطرف الآخر، وفي حالة الكساد والخسران يتحمل الطرفان معاً نتائجه وآثاره، ومن ثم لا يتحطم طرف ويلتزم طرف آخر بدفع الدين وتحمل تبعاته وحده(15).
كما قدم الفكر الإسلامي بديلاً لشهادات الاستثمار بأنواعها المختلفة في صورة تعامل جديد للأوراق المالية الإسلامية تسمى “سندات المقارضة” أو “صكوك المقارضة” التي تلتزم بالضوابط الشرعية لمبادئ الفكر الاقتصادي(16).
قاعدة الهرم السكاني بالعالم الإسلامي قوامها الشباب بما يمثلون من قوة كبرى لأي اقتصاد بالعالم
ثانياً: المقومات البشرية:
يمتلك العالم الإسلامي قوة بشرية هائلة تصل إلى ما يقرب من ملياري نسمة موزعين عبر خارطة العالم على النحو التالي: آسيا حوالي 1.4 مليار نسمة، أفريقيا 581 مليوناً، أوروبا 0.056، بل إن مركز «بيو» للأبحاث الأمريكي توقع أن يكون تعداد المسلمين في عام 2060 حوالي 3 مليارات نسمة بسبب سرعة النمو السكاني المتميز التي ستصل حسب التوقعات إلى 70%.
كما تشير الدراسات إلى أن معدل الأعمار في العالم الإسلامي حوالي (23) عاماً(17) بما يعني أن قاعد الهرم السكاني في العالم الإسلامي يمثلها الشباب، بما يمثلون من قوة كبرى لأي اقتصاد في العالم، وهو ما يجب توظيفه لصالح الاقتصاد الإسلامي بخطة إستراتيجية بعيدة المدى، يتم في ضوئها تفعيل قيمة العمل، والرغبة في الاكتفاء الذاتي، والقضاء على البطالة، والتقدم الاقتصادي على المستوى الدولي.
ورغم هذه الإمكانات البشرية الهائلة، فإن التنمية البشرية للإنسان المسلم متراجعة، ومترهلة؛ حيث يعاني أكثر من 322 مليون مسلم من الفقر، وتبلغ نسبة الأمية فيه بين النساء حوالي 65%، والرجال 40%، وبه أكثر من 40 مليون مسلم نازح ولاجئ.
العالم الإسلامي يمتلك 66% من القصدير العالمي و40% من الكروم و25% من الفوسفات و24% من المنجنيز
ثالثاً: المقومات المادية:
فيما يتعلق بالمقومات المادية، فإن منطقة العالم الإسلامي الكبرى في آسيا وأفريقيا من أغنى المناطق ثروة طبيعية في العالم (كما يذكر خبراء الاقتصاد)؛ فمساحته التي تبلغ 32 مليون كم مربع (وهي مساحة دول منظمة المؤتمر الإسلامي التي تبلغ 57 دولة) تمتلك 66% من القصدير العالمي، و40% من الكروم، و25% من الفوسفات، و24% من المنجنيز، و23% من البوكسايت، كما أن مساحات الأراضي الصالحة فيها للزراعة تبلغ حوالي 21% من مساحتها الإجمالية (غير مستغل منها سوى 5%)، كما تملك حوالي 1392 مليار برميل احتياطي النفط، و69% من الاحتياطي العالمي، و40% من صادرات المواد الخام(18).
ومن ناحية التجارة، يسهم العالم الإسلامي بـ3.4 تريليون دولار سنوياً في التجارة العالمية (878 مليار فقط في التجارة البينية).
يجب تفعيل مبادئ الشريعة في التجديد والاجتهاد الاقتصادي لمواجهة المشكلات
الوحدة الاقتصادية الإسلامية المنشودة:
رغم وجود اتفاقات اقتصادية موقعة من جانب بعض الكتل الإسلامية مثل اتفاقية «السوق العربية المشتركة» الموقعة منذ عام 1950م، ومجموعة الدول الثماني الإسلامية عام 1996م، والاتفاقات الثنائية العديدة بين دول العالم الإسلامي، فإن كلاً منها ظل قرارات أكثر منه ميدان عمل، ولا يوجد في العالم الإسلامي مشروع اقتصادي موحد لهذه الإمكانات، بسبب غياب الإرادة السياسية الموحدة، وعدم العمل الفاعل لتحرير إرادة الأمة.
إن تحرير اقتصاد الأمة يكون عبر الأمور التالية:
أولاً: بالتحرر من الارتباطات الاقتصادية الوضعية المحرمة.
ثانياً: بناء نظام عالمي اقتصادي إسلامي بديل ومواز للاقتصاد الوضعي الربوي المجحف للإنسان والإنسانية.
ثالثاً: وضع خطة للقضاء على الفقر الداخلي –غير المبرر- في العالم الإسلامي.
رابعاً: وضع خطة لاستثمار القوة البشرية الشابة الهائلة التي يتحقق معها تنمية أخلاقية واجتماعية واسعة في العالم الإسلامي (في مقابل البطالة وآثارها الاجتماعية المدمرة).
خامساً: تفعيل مبادئ الشريعة الإسلامية في التجديد والاجتهاد الاقتصادي لمواجهة المشكلات الداخلية والخارجية الدائمة والطارئة.
____________________________________________________________________________
(1) عبد الكريم زيدان: أصول الدعوة، ص 240، 241.
(2) انظر: سيد قطب: السلام العالمي والإسلام، العدالة الاجتماعية في الإسلام.
(3) أبو بكر بن أبي الدنيا: إصلاح المال، تحقيق: مصطفى مفلح القضاة، (القاهرة: دار الوفاء 1990)، ص 114.
(4) (5) (6) (7) (8): المرجع السابق، ص 153.
(9) سعيد حوى: الإسلام، ج1، ص 149.
(10) انظر: محمد صلاح الصاوي: مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام (المنصورة: دار الوفاء، د.ت).
(11) السيد سابق: فقه السنة، ج3، ص 129.
(12) شوقي أحمد دنيا: القواعد الشرعية المنظمة للعلاقات الاقتصادية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية (المسلم المعاصر، العدد 92، يوليو 1999)، ص 90.
(13) على أحمد السالوس، الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية، ج1، ص 497، 498.
(14) محمد عبدالكريم زعير: ماذا لو استظل الاقتصاد بظل الأمن في الإسلام (الاقتصاد الإسلامي، 19 أكتوبر 1999)، ص 256.
(15) المرجع السابق.
(16) علي أحمد سالوس، مرجع سابق، ص 254.
(17) قناة فرانس 24 https://www.france24.com/ar/20180904.
(18) انظر حول هذه الإحصائيات: العالم الإسلامي ثروات تنقصها الوحدة، https://lusailnews.net/article/politics/international/12/03/2017