تعد شيكاغو إحدى أكبر المدن الأمريكية بعدد سكان يربو على 9.5 مليون نسمة، يشكل المسلمون فيها حوالي نصف مليون نسمة، وفيها نحو 90 مسجداً ومصلى، ومن خلال معرفتنا الميدانية لشيكاغو تقام فيها أكثر من 150 خطبة جمعة، متضمنة الغرف في أماكن العمل للموظفين والطلاب المسلمين.
إن استقرار مفهوم المواطنة وخصوصاً فيما بعد مرحلة 11 سبتمبر 2001م، استدعى إعطاء الأهمية القصوى للعناية بالأسرة المسلمة كأولوية أولى، فمصطلح المجتمع (community) الذي فيه معنى الاستقرار المجتمعي كجزء من المجتمع العام هو المتداول الآن بدل مصطلح “الجالية” الذي فيه معنى الجلاء.
هناك مجموعة من الإشكاليات التي يعاني منها المجتمع المسلم فيما يتعلق بتقوية الروابط الأسرية وحماية الأسرة ودور المساجد مقابل ذلك، وإليكم تبيان بعضها ثم نعرج على بعض الجهود لمواجهتها:
1- إشكالية دور المركز الإسلامي:
الكثير من المراكز الإسلامية تحصر دور العناية بالأسرة من خلال إجراء عقود الزواج والطلاق، بالإضافة إلى بعض جلسات الإصلاح العائلي أو الندوات التثقيفية، إذا أضفنا أن بعض المراكز لا قدرة لها على توظيف أئمة ومصلحين أصلاً، فإن الكثير من الأسر المسلمة لا يتواصلون مع المساجد إلا بنطاق ضيق جداً.
2- إشكالية الفجوة الجيلية:
بعض الجيل الأول افتقد حقيقة التحديات التي يعيشها أبناؤهم وبناتهم في المجتمع الأمريكي العام، وبعض الجيل الثاني والثالث لم يستفد من الخبرة الدعوية وقيمة الهوية الإسلامية المتجذرة في الجيل الأول، فانحسر الجيل الثاني عن الوصول إلى أماكن صنع القرار في المراكز الإسلامية وغيرها من المؤسسات الإسلامية، وقصّر الجيل الأول في تقديم حلول ناجعة لما يعانيه الجيل الثاني من تحديات ومصاعب.
3- إشكالية جو الاحتقان العام:
منذ حملة «ترمب» الرئاسية الأولى شهدنا ولا نزال الكثير من الاحتقان العنصري تجاه الإسلام والمسلمين، ساعد في ذلك الخطاب الدعائي للانتخابات الرئاسية الأخير الذي اعتبر أن الوجود الإسلامي في أمريكا إلى جانب العدد السكاني للعرق الإسباني والأفريقي الأصل، يهدد ديموغرافية البلد في المستقبل القريب.
هذا الأمر، بالإضافة إلى بعض الممارسات العنصرية المتفرقة هنا وهناك، أثّر بشكل مباشر على شريحة كبيرة من المجتمع المسلم أن تتردد إلى المراكز الإسلامية والاستفادة مما قد تقدمه لها من خدمات أو للتعاون معاً لمواجهتها.
4- إشكالية التربية القيميّة:
فمن مشكلات المخدرات إلى العلاقات غير الشرعية، إلى تحدي الهوية الإسلامية، إلى حوادث التنمر ضد الطلاب في المدارس الحكومية غدت كلها تهدد قدرة الأهل من جهة على توفير عنصر الأمن لأبنائهم وبناتهم من هذه المخاطر الاجتماعية، وبالتالي قدرة المراكز الإسلامية على التعامل معها محدودة بسبب قلة الموارد والخبرات.
وليت الأمر يقتصر على الفساد الأخلاقي القِيمي، بل إن الأثر النفسي السلبي على هوية الشباب المسلم أصبح أكثر خطورة، فبات الأهل يُحضِرون أبناءهم وبناتهم إلى المراكز الإسلامية جراء التشكيكات بالهوية، والدين، والعادات، والتقاليد.
جهود وحلول
وبعد أن عرضنا هذه الإشكاليات والتحديات التي يلاحظها بسهولة كل مَنْ يمَّم وجهه نحو الغرب بصورة عامة وأمريكا بصورة خاصة، نقدم فيما يلي بعض الخطوات التي قمنا بها في المركز لمواجهتها، ولعل هذه الخطوات تصلح للتطبيق في مراكز أخرى وأماكن مع مراعاة خصوصية كل منها:
1- توسيع دور الخدماتية الأسرية في المسجد:
عمدنا في مركز «الصلاة» إلى توظيف إحدى الأخوات المجازة من ولاية إلينوي كاختصاصية مصلحة اجتماعية (social therapist) للتعامل مع الناشئة وبعض الحالات الأسرية التي يحيلها الإمام إليها في حال الحاجة لذلك.
قمنا في المسجد ومن خلال الأئمة الثلاث المناوبين على الخدمات الدينية والروحية والاجتماعية بأخذ دورات تثقيفية مع جهات طبية متعلقة بالصحة النفسية (mental wellness) لمعرفة طبيعة التحديات النفسية التي تعانيها الأسرة وطريقة التعامل معها.
كما أن لدينا جدولاً بأسماء أطباء نفسيين ومشافٍ وعيادات خدماتية نفسية نحيل عليها أي حالات نرى الحاجة إلى عناية مركزة طبية أكثر من مجرد نصح.
وفي كل جلسة إصلاح عائلية نمكث من ثلاث إلى خمس جلسات لنعطي الحق الوافي لكل قضية بما تحتاجه، ثم نحيل ذلك على الاختصاصيين إن احتجنا إلى ذلك، ويجدر الذكر أن 40% من طبيعة عملنا كأئمة هو في الإصلاح الاجتماعي.
2- البرامج المشتركة والانخراط الإيجابي:
من أجل مواجهة الفجوة الجيلية، ألزمنا الشباب المتردد على المسجد والمتطوع بالقيام بأنشطة مشتركة مع لجنة كبار السن (55 Plus)، بحيث يندمج الجيلان ببعضهما ويتبادلان الحديث حول أمورهم الاجتماعية والعامة؛ فتزداد بذلك أواصر التعارف والفهم وتقل مقابلها نسبة الفجوة الجيلية.
قمنا أيضاً بإعطاء مجموعة من الشباب دور قيادة بعض اللجان الخدماتية التي فيها عدد من الآباء والأمهات لزرع روح القيادة واكتساب الخبرة من خلال التناصح مع الجيل الأكبر منهم سناً في طريقة إدارة تلك اللجان.
3- التواصل مع غير المسلمين:
إن الجهود المبذولة من خلال برامج خدمات المجتمع المشتركة مع غير المسلمين، ثم التطوع المستمر لأبناء وبنات المجتمع المسلم في القطاع العام؛ من مثل التعاون مع البلديات في تنظيف المنتزهات أو المساعدة لدور المسنين الأمريكيين في كافة احتياجاتهم، أو التطوع في برامج التغذية والصحة للمحتاجين وتغطية ذلك إعلامياً؛ يساعد بشكل مباشر وفعّال بتحسين صورة الفرد والأسرة المسلمة؛ وبالتالي التقليل من الاحتقان العام ضد المسلمين.
كما أن هذا الأمر يجعل الفرد والشاب المسلم أكثر إيجابية في الانخراط لصالح الشأن العام بدل الخوف والانحسار عنه.
4- علم وعبادة وخدماتية:
إن برامج المسجد التثقيفية والتوعوية الدينية، من خلال البرامج الأسبوعية لكافة الأعمار بمستويات الأعمار الدراسية من الابتدائية إلى المتوسطة إلى الثانوية إلى الجامعية، ثم تقديم البرامج الجماعية التعبدية من خلال أنشطة قيام الليل أو اعتكافات رمضان أو حلقات تلاوة القرآن، إضافة إلى الفرائض الدينية، ثم ترجمة ذلك إلى الإجراءات الخدماتية في المسجد أو في الصالح العام يعدّ من أهم الأسباب التي تحفظ الهوية المسلمة لكل فرد، وتزيد أواصر الترابط مع باقي أبناء المجتمع، التي فيها العون للثبات على الدين وتحمي الشباب والشابات من أمراض المجتمع الأخلاقية.
في الختام، دائماً أذكر للناس أن المعجزة الحقيقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تكمن في نزول القرآن عليه، فذاك كان كلام الله المعجز الذي نزل على قلبه عليه الصلاة والسلام، إنما معجزته صلى الله عليه وسلم التي قدمها هو لنا كانت جيل الصحابة الكرام.
إن من استطاع أن ينشئ جيلاً ويربيه ليتسلم منه الوحي، ويحيا به، ثم ينقله إلى جيل آخر بعده هو الإنجاز المعجِز الذي ينبغي أن نسير عليه، فنحن مستأمنون في كل زمن أن نترك خلفنا جيلاً يستلم منا أمانة هذا الدين الحنيف؛ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ) (الطور: 21).
______________________________________________________________________
(*) إمام ومدير مركز «الصلاة» الإسلامي ورئيس مجلس الأئمة بشيكاغو وممثل دار الفتوى اللبنانية بأمريكا