للأرواح موعد تتعانق فيه مع مولدات الطاقة التي تجعل أنوار الهداية مستمرة في أداء مهامها طوال العام، فلا تخبت تلك الأنوار ولا تضل تلك الأرواح، إنها طاقة الهداية تلك التي وردت في أول سورة «البقرة» في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، وفي السورة نفسها تظهر أشعة أنوار الهداية من خلال اجتماع القرآن مع رمضان؛ فيظهر لنا جلياً كيف تدرك الأرواح تلك الأنوار الهادية؛ ففي ثنايا آيات الصيام يأتي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).
إن تلك الطاقة الروحية لا تقف عند حدّ تلاوة القرآن في شهر رمضان فقط؛ بل يمتدّ مسار تلك العلاقة إلى الاستظلال بهدي القرآن ورؤاه وبصائره وبيّناته، فتشتد بذلك دعائم تغيير وتهذيب السلوك والأخلاق، وبناء الفضائل وفق الهدي الرباني القويم، ولا سيما أن الغرض الأساس لنزول القرآن الكريم هو أن يكون كتاب هُدى وتزكية وتربية قبل أن يكون كتاب معرفة وتنظير: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن مأدبة الله؛ فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إنّه النور المبين، والشفاء النافع، تعلموه فإنّ الله يشرّفكم بتعلمه».
إن طبيعة تكوين الإنسان أنه مخلوق امتزجت فيه الروح مع الطين، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون).
ففي مراحل نمو بنيان الجسد في أرض رحم الأم يتغذى جسده على ما يلتهمه من مواد غذائية مناسبة لجسده، ثم يرسل الله تعالى إليه الملَك فينفخ فيه الروح، وبهذه الروح يصير خلقاً آخر، وهنا يحتاج العنصر الجديد إلى غذاء جديد يبني به حياته ويشتد به قوامه، وغذاء الروح سماه الخالق الذي خلق الروح «روحاً»، وبهذا يكون القرآن الكريم هو روح الروح، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52).
وكما أن الحصول على أرزاق الأبدان يحتاج إلى جهد ومجاهدة، فكذلك أرزاق الأرواح تحتاج إلى قوة ومجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: 12).
خُذه إلى أعمَاقِك، خذهُ إلى تَلافيف مخك، خُذه لِيسري في عُروقِك في تنفُّسك، في شَهيقِـك وزَفيرك، خُذه لكي يكُون كتاب التَّعليمات فِي حَياتك، بهذا الأخذ سيرشدك القرآن حتى تتعامل مع نفسك بصورة سليمة متوازنة مسترشدة بأنوار الهداية.
وإن نور القرآن حين تشرق شمسه في قلب المؤمن، وتظهر علامات ذلك في وجه المرء، وتلكم الوجوه هي الوجوه التي تضيء للأمة، عندما تشتد الظلمات، قال الشاعر:
يا قــــــارئ القرآن إن قلوبنا عطشى إلى حوض الهدى المورود
شنف مسامعنا بآيات الهــــــــــــ ـــدى وافتح منافذ دربنا المسدود
وأقـم من الإخلاص قصراً شامخاً يدني على عينيك كل بعيد