فضل كاتب هذه الكلمات الابتعاد زمنيًا -قدر الإمكان- عن الحدث السياسي الخطير الذي جرى على أرض تونس الحبيبة، مساء الأحد 25 من يوليو الماضي، مع كونه دققتُ مع الملايين على امتداد العالم في قرارات الرئيس قيس بن سعيد التي اتخذها عقب اجتماع ليلتها ظهر كأنه طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، كما تابع جريء إعلان بن سعيد عن تجميد اختصاصات البرلمان، بالإضافة إلى إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، وإعلان تولي بن سعيد بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها بدعوى تفعيل المادة (80) من الدستور التي “قرأها” على أنها تسمح له بحزمة القرارات التي تجعل من شخصه باختصار شديد غير مخل “الدولة”؛ وفي المقابل كان رئيس البرلمان التونسي، زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي على نفس مستوى الجرأة ـ لكن في الكلمات ـ إذ يقف أمام باب البرلمان المغلق بسلسلة حديدة تنتهي بـ”قفل” قائلًا في نفس الليلة إن ما فعله بن سعيد انقلاب.
مع مرور الأيام ومتابعة الأحداث ومقارنتها بما حدث ويستمر في دول “الربيع العربي” خاصة مصر -قلب الأمة الإسلامية العربية المفترض أنه نابض دومًا- بقي أن ما حدث ويستمر في تونس يتفق مع جميع محاولات القضاء على الربيع السياسي “المُشتهى” مع مراعاة أن شرارة التغيير الثوري انطلقت من تونس قرب نهاية 2010م ويبدو أنها قد تنطفئ منها ـ نسأل الله السلامة ـ بعد عشرة سنوات ونيف، أما مجريات الأمور فتقول أن الذين خططوا ورتبوا ودبروا للانقلاب في مصر هم أنفسهم الذين يقفون خلف أحداث تونس الأخيرة التي تؤدي لنفس النتيجة لكنهم أخذوا أهبتهم للدوران أو “الملف” ـ بلغة قائدي السيارات ـ فجاء على الهادئ هذه المرة لدرجة أنهم صبروا عقدًا من السنوات وزيادة، ويبدو أن بقية المشهد ستسير على نفس الإيقاع البالغ البطء، أي إن الإجراءات التي شهدتها مصر متسارعة ستشهدها تونس بتؤدة وتمهل لكن النتيجة في النهاية واحدة.
يبقى أن للحدث درسًا ظاهرًا واضحًا يجب الاستفادة منه وتفاصيل أخرى مؤجلة لحين بداية العمل الحقيقي لإحداث نهضة حقيقية لدولنا العربية والتغلب على عدم إحسان إعداد من المعارضين وعلى رأسهم الإسلاميين لفهم الأحداث والاستفادة القصوى أو المحدودة منها، ولكن قبل ذلك يجب أن نسأل سؤالًا ذا دلالة: لماذا جاء التراجع الكامل في ثورة الياسمين التونسية الآن؟ ومع تداخل الإجابة مع “الدرس” الذي سنبينه بعد سطور فإن التصدي لتفسير كلمة سر موعد “الانقلاب”، بحسب تسمية الغنوشي، وإن اتفقنا معه في مجريات الأحداث ودلالة اللفظ اختلفنا في المجاهرة بمثل هذا اللفظ منذ بداية الأحداث، وقطع الطريق على تراجع بن سعيد مع عدم وجود إجراء رادع أو حتى مقبول لدى رئيس البرلمان للمقاومة؛ فكانت المجاهرة بالكلمة ازديادًا في حدة الموقف ووصوله لنهايته مبكرًا دون إمكانية حل.
يقول بعض الذين كتبوا عقب الحدث مباشرة أنه ما من سبيل للتصدي للديمقراطية بنكهة إسلامية فحتى عدم التعرض للسلطة كما فعلت حركة النهضة التونسية أمر لا يتقبله الغرب، ويتناسى هؤلاء أن الحركة التونسية انسحبت من مضمار الترشح للرئاسة، حتى الانتخابات الأخيرة التي ترشح فيها عنها عبد الفتاح مورو أمام الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي والحالي وآخرين، بما كشف أمام العالم أن “النهضة” تسعى للرئاسة مثلها مثل “الحرية والعدالة” في مصر وبما ساهم بقوة في إنهاء “ربيع” الود السياسي الغربي وإن استمر لعدة سنوات بتونس ولم يستمر في مصر إلا لعدة أشهر!
إن الإسلاميين مدعوون بعد أحداث تونس الأخيرة والمستمرة ـ التي نسأل الله السلامة لأهلنا هناك خاصة المخلصين منهم ـ للتفكر بصورة جدية في تصديهم للحكم بدرجاته خاصة في النظم الحاكمة العربية كما في: السودان، الجزائر، مصر، المغرب.. فمع عدم امتلاكهم مقومات السلطة أو الحكم ـ ولو جزئيًا ـ لا ينتهي الأمر دائمًا إلا بالإخفاق أو مخالفة المبادئ الأساسية للشرعية ومن ثم الخروج من المضمار بعد مآس أو حمامات دماء يعجزون خلالها عن المواجهة أو إيجاد حل حتى ليستمر الموقف لسنوات ـ نسأل الله السلامة ـ مما يقودنا للسؤال الضخم المتكرر في مثل هذه الأحداث أو بالتحديد في مصر (1954، 2013م)، الجزائر (1991 – 2002م أو ما عُرِفَ بالعشرية السوداء)، ولعلنا نتفق على أن أحداث تصديهم للحكم لا تأتي بالنهاية إلا بإزاحة لهم وتقهقر ـ يحمدون الله إن مر بسلام وأمان ـ، وهكذا صار عرفًا أنك إن أردت أن تفشل تجربة سياسية إسلامية “عربية” فعليك أن تسهل لأهلها “استلام السلطة”؛ وأخيرًا صار العداء الغربي أكثر حدة وشراسة إذ حاول بعض الإسلاميين في تونس الوصول لرأس السلطة!
في أيامه الأخيرة راجع الإمام حسن البنا نفسه بشدة في خروجه بدعوة الإخوان من المسجد أو “مرحلة المأثورات” وقال قولته التي نقلها الراحل الشيخ محمد الغزالي عنه، وذكرها ـ أيضًا ـ سكرتيره الخاص الراحل فريد عبد الخالق ـ رحمهم الله جميعًاـ في برنامج: “شاهد على العصر” مع الإعلامي أحمد منصور: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لعكفتُ على تربية مائة شاب مسلم في المسجد ولما خرجتُ بهم منه، وهي المقولة التي أنكرها أتباع الإمام في 1954، و2013م فكانت الأحداث المأساوية التي عصفت بالملايين في بلد تنظيم الإخوان الأم وما تزال.
إننا غير مدعوين للبكاء على اللبن المسكوب ـ وهو كثير للأسف ـ بل لمحاولة إعادة تربية وصقل المواهب والصفوف سلميًا بشكل أكثر جدية واستفادة من الدروس بما يناسب زماننا وبيئاتنا، مع التشديد على ضرورة معرفة الفارق بين “الدعوي التربوي” و”الإغاثي الإعاني” و”التصدي للحكم”، ومن قبل حساب وفهم ضرورة الإخلاص لله تعالى في الاحتراز من الدماء وسيلانها وإهدارها وإزهاق طاقات وقدرات الأمة في المنافي والسجون، فإن قال قائل بل إن الغرب يدعونا لعدم السلمية بمثل هذه التصرفات كان الرد واضحًا ولماذا نعرض طاقاتنا وقدراتنا وأسماها البشرية لمثل هذا التحدي والانجراف والانجرار إليه؟!
حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم على دماء حتى المشركين وخبأ خبر نيته فتح مكة لئلا تستعد قريش فتكون ملحمة وسمى اليوم “يوم المرحمة”، فمتى يمكن للإسلاميين في دول الربيع العربي وغيرها دراسة موقفهم وأعدائهم بهدوء وتأن واتخاذ القرارات التي تحفظ عليهم قدراتهم قبل مجتمعاتهم وأن يحسنوا الخروج بسلام إن لم يحسنوا الدخول.
حما الله الأمة الإسلامية كلها وجنبها المزيد من المحن والفتن إنه على ذلك قدير!