ما أكثر ما ظلم الجمال عبر الأزمان مع تعاقب الحضارات واختلاف المفاهيم بين جاحد متزمت وصاحب هوى مسرف، وما أكثر ما تغنى به شعراء وهاجمه أدباء، ولا يخفى على كل منصف أن قضية الجمال وجدت نفسها بتوازنها وبهائها المميز لها في رحاب المنهج الإسلامي بوسطيته المعهودة وتقديره المتوازن لكافة الأمور، ومارس الجمال في ظل دوحة الإسلام دورا ملموسا سواء في العقيدة أو في الجانب النفسي أو في الأحكام الفقهية؛ ليظهر في المنهج الإسلامي بثوب قشيب، أهم سماته الطهارة والنقاء التي لم يعهدها في أي حضارة أخرى.
ففي الجانب العقائدي:
كثيرا ما تشهد الآيات القرآنية بروعة وجمال الخلق كدلالة على وجود الخالق المصور المبدع ذي القدرة المطلقة والمشيئة النافذة، قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات: 6)، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} (الفرقان: 61)، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} (ق: 6- 10)، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} (الزمر: 21)، قال ابن القيم: “ومن أسمائه الحسنى الجميل، ومن أحق بالجمال ممن خلق كل جمال في الوجود؟! فهو من آثار صنعه؛ فله جمال الذات، وجمال الأوصاف، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء؛ فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها جميلة”.
وفي إشباع الجانب النفسي والروحي من رحيق الجمال:
أحل الله تعالى للمسلم التمتع بكل ما هو جميل ما دام عنه انتفت المضرة في نفسه وفيمن حوله بلا إسراف ولا مخيلة، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس” [رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1742)]، وقال: “كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة” [رواه أحمد وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (2 / 494) برقم (4381)]، وكان صلى الله عليه وسلم يحب المنظر الحسن، والوجه الحسن، والاسم الحسن، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا بعثتم إلي رجلا فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم” [رواه البزار وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (413)]، وقال صلى الله عليه وسلم: “خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت [أي حسن هيئة] ولا فقه في الدين” [رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(3229) ].
ويندرج تحت هذا الجانب علاقة الرجل والمرأة التي وجدت في الزواج الشرعي فرصة الإشباع المشروع لهذا الجانب الغريزي، وقد هيأ الشارع لهذه العلاقة كل مقومات التمتع الكامل والطاهر؛ فحث كلا من الزوجين ــخاصة الزوجةــ على الحرص على أن يكونا في أجمل صورة وأبهى منظر في عين الآخر، بل جعل من أوجب حقوق الرجل على زوجته أن تتزين له، وله أن يطالبها بحقه من الزينة منها إن هي أهملت هذا الأمر.
وبتخصيص زينة المرأة لزوجها وحجبها عن عيون الآخرين استطاع الإسلام بتوازن منقطع النظير ملاءمة الفطرة السوية، وتقييد أسباب الرزيلة فحل بذلك أصعب معادلة حارت فيها البشرية.
وفي الجانب الفقهي والتشريعي:
كان للجمال وزنه وثقله في الأحكام المنوطة به ولا أدل على ذلك من البحوث المستفيضة لفقهاء المسلمين حول اعتبار الجمال أحد المقومات التي يفضل أن تكون في الزوجة فقال صلى الله عليه وسلم: “ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز و جل خيرا له من زوجة صالحة؛ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته…” [رواه ابن ماجة و ضعفه الألباني: انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9 / 413) رقم (4421)]، ومنها ضرورة نظر الخاطب لخطيبته قبل العقد عليها والدخول بها لترتبط الحياة الزوجية برباط الاقتناع والمحبة فيدوم خيرها وهناؤها، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل” [رواه أبو داود و حسنه الألباني: انظر سلسلة الصحيحة (1 / 98) رقم(99)]، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنظرت إليها؟” قال: لا. قال: “انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما [أي أجدر أن يدوم الوفاق بينكما]” (رواه الترمذي وصححه الألباني: انظر سلسلة لأحاديث الصحيحة: 1 / 95 رقم (96.
بل أجاز الشارع للمرأة أن تختلع من زوجها لدمامة فيه، كما حدث مع حبيبة بنت سهل الصحابية رضي الله عنها وكانت زوجة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وكان رجلا دميما فقالت: يا رسول الله! والله لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أتردين عليه حديقته؟ ” قالت: نعم، فردت عليه حديقته. قال: ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه ابن ماجه (2047) وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه برقم (446)].
وختاما.. وفي الآخرة يحط الجمال رحاله كأعظم جزاء ينتظر الموحدين، إنها الجنة التي يتجسد فيها الجمال بأروع حلله بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فهي نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وفاكهة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة في دور عالية بهية سليمة، ونصوص الكتاب والسنة تتكاثر في وصف هذا الجمال لتشحذ همم العاملين وتوقظ أفئدة الغافلين، قال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} (الإنسان: 20)، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (محمد: 15)، وقال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم * على الآرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم* يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون} (المطففين: 22-28)، ويصفها صلى الله عليه وسلم بقوله: “لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم” رواه أحمد [وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3116).]، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا” (رواه مسلم).
إن قضية الصراع بين الدين والجمال ما هي إلا محض أوهام نسجها الحقد الدفين لهذا الدين في عقول أعداء الرسالات السماوية، محاولين أن يظهروا دائما موقفا عدائيا بين الدين والمتعة.
لكن شتان بين توظيف الجمال ومعاداته.
شتان بين المتعة الحقيقية والمتعة التي لا يلوي أصحابها على شيء.
شتان بين الطهارة النقية والدنس المشوب بكل قذارة.
شتان بين أن نكون آدميين وأن نكون شهوانيين.
—
* المصدر: موقع “حب الإسلام”.