يمثل مفهوم “فلسطين الرقمية” المكان الذي يستطيع الفلسطينيون فيه تجاوز نقاط التفتيش والتحدث لعائلاتهم -التي فصلتهم عنها الأسلاك الشائكة- ونشر قصصهم للمتعاطفين معهم أينما كانوا؛ إنه ذلك الوفاء بالوعد المتفائل والمنسي الذي تعهدت به شبكة الإنترنت قديما، لإعطاء صوت لمن لا صوت له وتسليط الضوء على مناطق العالم الأكثر قتامة.
ويرى تقرير لمجلة “فورين بوليسي” (The Foreign Policy) الأميركية أن هذا قد يكون الحل في مواجهة الإجراءات المشددة التي يخضع لها الفلسطينيون من التضييق والمراقبة المستمرة التي تمارسها سلطات الاحتلال.
وذكرت المجلة -في تقرير للكاتبين الأميركيين إيمرسون بروكينغ وإيليزا كامبل- أن هذا العالم الافتراضي الحر بات -بدوره- مهددا بالاختفاء بسبب 3 قوى أساسية، أولاها جهاز الشرطة والمراقبة الموسع لدولة “إسرائيل” الذي يتم استخدامه لتتبع وترهيب وسجن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بسبب رسائلهم عبر الإنترنت.
أما الثانية فهي شبكة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تستخدمها الحكومة “الإسرائيلية” لاستهداف التعبير المؤيد للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، فيما تتجلى القوة الثالثة -والأكثر إثارة للدهشة- في شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأميركية التي أبدت استعدادا لإسكات الأصوات الفلسطينية إذا كان ذلك سيعني بالنسبة لها تجنب أي جدل سياسي محتمل وأي ضغط من الحكومة “الإسرائيلية”.
ويضيف التقرير أن هذه القوى مجتمعة تظهر كيف يمكن لحكومة ديمقراطية ظاهريا أن تقمع حركة شعبية على الإنترنت بموافقة المديرين التنفيذيين الليبراليين في وادي السيليكون، وهي “لعبة” يبدو أن قواعدها لن تبقى حبيسة الشرق الأوسط إلى الأبد، بل قد يتم تطبيقها مع مرور الوقت ضد مجتمعات النشطاء في جميع أنحاء العالم.
وقد بدأ قلق الحكومة “الإسرائيلية” يتنامى فعليا منتصف العقد الأول من القرن الحالي بعد أن وجد الفلسطينيون صوتا لهم في الفضاء الافتراضي، فاستثمرت قوات الاحتلال بشكل كبير في تطوير قدراتها على التأثير عبر الإنترنت؛ إذ قام بتجنيد المدونين ومصممي الغرافيك، ودشن حضورا قويا له على منصات فيسبوك وتويتر ويوتيوب، وفي أوقات النزاع ينظم طلاب الجامعات العبرية “غرف هاسبارا” (هاسبارا تعني “شرح” باللغة العبرية) حيث يجتمعون لإنتاج محتوى مؤيد لـ”إسرائيل”، وصد التحيز المناهض لها في وسائل الإعلام الدولية.
ومع ذلك، لم يكن ذلك كافيا لتغيير الرأي العام العالمي الذي ظل ينتقد بشدة “إسرائيل” خلال حربي 2012 و2014 على غزة، خاصة في ظل إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بصور القتلى من الأطفال وبأدلة دامغة تعكس معاناة الفلسطينيين.
الحل في الاعتراف “بدولة فلسطين الرقمية“
وتؤكد فورين بوليسي أنه بالنظر لاعتناق الفلسطينيين النشاط الرقمي واعتمادهم عليه لتعزيز قضيتهم من جهة، ونظر الحكومة “الإسرائيلية” إليه على أنه تهديد أمني من جهة أخرى، فقد فشلت شركات التواصل الاجتماعي الكبرى إلى حد كبير في رسم مسار وسطي؛ إذ تمارس الحكومة “الإسرائيلية” حملة ضغط قانونية وخارجة عن القانون منسقة، ولا يمكن للمديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا تجاهلها.
ورغم ذلك فقد تنبهت بعض المجموعات داخل هذه الشركات إلى التآكل المستمر للحقوق الرقمية الفلسطينية، ففي سبتمبر الماضي دعا مجلس الرقابة في فيسبوك إلى إجراء تحقيق مستقل في ممارسات تعديل محتوى المنصة المؤيد للفلسطينيين لتحديد إذا ما كانت “قد تمت من دون تحيز“.
كما أعرب المجلس عن قلقه من أن منظمات حكومية “إسرائيلية” -مثل “وحدة الرقابة على الإنترنت” (Cyber Unit) التابعة لوزارة العدل الإسرائيلية”- ربما تكون قد صاغت بشكل غير محسوس قرارات الإشراف على محتوى فيسبوك، وإذا أخدت المنصة الزرقاء هذه التوصيات غير الملزمة على محمل الجد، فقد تحذو شركات تواصل اجتماعي أخرى حذوها في إعادة تقييم نهجها في التعامل مع المحتوى الفلسطيني.
ويرى التقرير أن هذه الخطوة من فيسبوك تبقى رغم ذلك أقل بكثير من المطلوب، فتعاطف مجلس رقابة الشركة يوفر راحة محدودة للفلسطينيين الذين هم أهداف لجهاز رقابة “إسرائيلي” متطور، وتتمثل الخطوة الأقوى والأسرع في هذا الإطار في التزام شركات وسائل التواصل الاجتماعي بمراعاة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 لعام 2012 الذي يعترف بدولة فلسطين المستقلة ويمنحها مكانة بوصفها دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة.
ومن شأن مثل هذا الإجراء أن يضفي الطابع الرسمي على نوع من “السيادة الرقمية الفلسطينية” ويضمن للفلسطينيين حقوقا محدودة في التعبير عبر الإنترنت وإجراءات قانونية واجبة تتجاوز وساطة مسؤولي الأمن “الإسرائيليين”.
كما سيعكس روح كل من اتفاقيات أوسلو ومبادرات السلام اللاحقة التي توسطت فيها الولايات المتحدة، والتي سعت كل منها إلى رسم خارطة طريق نحو دولة فلسطينية مستقبلية.
ومن الناحية العملية، من شأن اعتراف شركات التواصل الاجتماعي بـ”دولة فلسطين الرقمية” أن يعزز الحماية للخطاب الفلسطيني، ولن تكون الحكومة “الإسرائيلية” قادرة بعد الآن على إصدار طلبات إزالة المحتوى التي تعامل الفلسطينيين أقلية بلا دولة ومثيرة للقلائل، كما لن ينسق المسؤولون التنفيذيون في مجال التكنولوجيا من الآن فصاعدا بشكل مريح اجتماعاتهم المنتظمة مع مسؤولي الأمن “الإسرائيليين” في حين يتجاهلون ممثلي الفلسطينيين.
وفي أي أزمات مستقبلية سيكون بمقدور الفلسطينيين الشعور براحة ولو قليلة لعلمهم أن أصواتهم الرقمية، وهي مفتاح سلامتهم ووسيلة الإنصاف الفعالة الوحيدة لديهم، لن تقع بالكامل تحت رحمة قوة أجنبية معادية.
وتزداد الحاجة لهذه الحماية أكثر فأكثر في ظل استمرار “إسرائيل” في النظر لحق التعبير الفلسطيني على أنه يشكل تهديدا لأمنها القومي ومواصلتها إسقاط مصطلح “الإرهاب” بشكل عشوائي على الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى.