تمثل الهبة الشعبية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية وتحديداً في القدس؛ رداً على جرائم الاحتلال الصهيوني في المسجد الأقصى، فرصة ثمينة للفلسطينيين لإعادة تقييم تجربتهم النضالية، وتصويب مسار العمل المقاوم بشكل يضمن استدامة تأثيره وتواصله وتعزيز قدرته على إعاقة مشاريع الاستيطان والتهويد، وصولاً إلى التحرير الكامل للأرض؛ وهو ما يستدعي التوافق على إستراتيجية شاملة للمقاومة، تفي بكل المقومات التي تكفل شق المسار الذي يفضي إلى التحرر الوطني.
من الواضح أن نجاح أي إستراتيجية شاملة للمقاومة يتوقف على استخلاص العبر من التجربة التاريخية للمقاومة، وحصر الإنجازات التي حققتها، ورصد الأخطاء التي وقعت فيها؛ سيما في الفترة التي تلت اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987م، وتوافق جميع القوى الفلسطينية الفاعلية عليها.
ولا شك أن أهم إنجاز إستراتيجي حققته المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة «حماس» تمثل في نجاحها في فرض معادلات قاسية وغير مسبوقة على الاحتلال الصهيوني، تحديداً مع الأخذ بعين الاعتبار أن موازين القوى تميل بشكل جارف لصالح الكيان الصهيوني.
أهم إنجازات «حماس» نجاحها في الربط بين غزة والقدس
ولعل أهم الإنجازات التي حققتها «حماس» يتمثل بنجاحها في الربط بين غزة والقدس؛ بحيث إنها تمكنت من إرساء معادلة مفادها أن تنفيذ الكيان الصهيوني جرائم في القدس المحتلة، وضمن ذلك المس بالمسجد الأقصى، ومحاولة تغيير الوضع القائم فيه؛ يمنح الحركة الحق في استهداف العمق الصهيوني بالصواريخ.
ولعل ما يدل على نجاح هذه المعادلة بشكل كبير قرار الحكومة الصهيونية مؤخراً منع قوى اليمين من تنظيم مسيرة ترفع فيها الأعلام الصهيونية في البلدة القديمة من القدس المحتلة؛ فقد أوضحت حكومة «تل أبيب» أنها أقدمت على هذه الخطوة على اعتبار أن السماح بتنظيم المسيرة كان سيقود إلى إطلاق «حماس» الصواريخ على المستوطنات في العمق الصهيوني، مع كل ما يترتب عليه من اندلاع حرب جديدة على غرار حرب مايو 2021م.
وهذا ما يعني أن «حماس» نجحت في إرساء معادلة ردع واضحة المعالم باتت تؤثر على قرارات الحكومة الصهيونية بشأن القدس والمسجد الأقصى، وقد تسبب هذا النجاح في تفجر حملة انتقادات حادة داخل الكيان الصهيوني لسلوك الحكومة بقيادة «نفتالي بينيت»؛ حيث اتهمت المعارضة اليمينية والكثير من المعلقين الصهاينة الحكومة بالخضوع لـ«حماس» والاستسلام لخطوطها الحمراء.
إلى جانب ذلك، فقد سمح نجاح «حماس» بالربط بين غزة والقدس في تعزيز مكانتها الداخلية بشكل واضح؛ حيث إن هذا ما تم التعبير عنه في استنجاد المرابطين في «الأقصى» وفي الضفة الغربية بالذراع العسكرية لحركة «حماس» «كتائب الشهيد عز الدين القسام» وقائدها محمد الضيف.
في الوقت ذاته، أثبت حرص الأطراف الإقليمية والدولية على التواصل تحديداً مع رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في إطار جهودها لتهدئة الأوضاع في القدس والأراضي المحتلة، على تعاظم مكانة الحركة الإقليمية والدولية؛ في حين تم تجاهل السلطة الفلسطينية؛ وهذا ما أثار حفيظة رئيسها محمود عباس الذي أبدى امتعاضه من توجه كل من مصر وقطر والأمم المتحدة إلى «حماس» بشأن تهدئة الأوضاع، مع العلم أن هذا التحول يمثل إضافة لنهج المقاومة وليس لحركة «حماس» فقط.
مراعاة الكيان لموقف «حماس» بشأن القدس أحرج النظم العربية المطبِّعة
في الوقت ذاته، فإنه يمكن الافتراض أن مراعاة الكيان الصهيوني لموقف «حماس» بشأن القدس أحرج نظم الحكم العربية التي ترتبط معه باتفاقات سلام وتطبيع، وهذا ما دفع بعضها إلى استدعاء السفراء الصهاينة والتعبير عن احتجاجها على اعتداءات الاحتلال في «الأقصى».
نقطة ضعف خطيرة
لكن على الرغم من ذلك، فإن العمل المقاوم في الساحة الفلسطينية يواجه نقطة ضعف خطيرة يتوجب معالجتها، تتمثل في التسليم بهدوء ساحة الضفة الغربية وعدم استنفاد الطاقة الكامنة في الساحات الأخرى التي يتواجد فيها الشعب الفلسطيني؛ ولا سيما فلسطينيي الداخل والشتات.
إن من الخطورة بمكان الاستسلام لتعاون سلطة عباس والكيان الصهيوني الهادف إلى تجفيف بيئة هذه المقاومة هناك، والقبول ببقاء هذه الساحة خارج الفعل المقاوم المؤثر على أهميتها.
فما لم تتحول الضفة الغربية إلى ساحة المواجهة الرئيس مع الاحتلال، واستغلال الساحات الفلسطينية الأخرى، فإن الفعل المقاوم لقطاع غزة لا يمكنه وحده مواجهة سياسات الاحتلال وإجراءاته الهادفة إلى تهويد الأرض الفلسطينية.
فالضفة الغربية تمثل خاصرة رخوة للكيان الصهيوني، حيث إنها تضم مئات المستوطنات اليهودية وعشرات المواقع العسكرية، فضلاً عن وجود عشرات الطرق والشوارع التي يسلكها جنود الاحتلال ومستوطنوه في أرجاء المنطقة مما يوسع من دائرة الأهداف التي يمكن أن تطالبها المقاومة هناك.
فضلاً عن ذلك، فإن مساحة الضفة الغربية الكبيرة نسبياً، التي تبلغ حوالي 15 ضعف مساحة غزة، والحدود الطويلة التي تفصلها عن الكيان الصهيوني؛ تمنح فرصاً كثيرة لاختراقها مما يزيد من حجم التحديات الأمنية للعدو.
لذا، يتوجب ضمان توفير بيئة تسمح باستئناف العمل المقاوم انطلاقاً من الضفة الغربية؛ حيث إن إطلاق الصواريخ من غزة لا يمكن أن يكون بديلاً عن بلورة إستراتيجية شاملة تضمن زيادة مكانة وتأثير الضفة في الفعل المقاوم بشكل يناسب واقعها الجغرافي.
ومن نافلة القول: إن الاستيطان والتهويد والاعتقالات والاغتيالات التي ينفذها جيش الاحتلال على مدار الساعة وبشكل يومي والجرائم التي تقترفها التنظيمات الإرهابية اليهودية يوفر «شرعية دولية» للعمل المقاوم هناك.
لكن إرساء قواعد إستراتيجية المقاومة الشاملة يتطلب توافق الفاعلين الرئيسين في الساحة الفلسطينية؛ مع العلم أن هناك تبايناً في المواقف بين هؤلاء الفاعلين بشأن أهداف المقاومة وآلياتها؛ فليس جميع الفصائل والقوى والفعاليات الفلسطينية في الوطن والشتات تؤمن بتحرير فلسطين بشكل كامل، أو تؤيد استخدام الفعل المسلح ضد الاحتلال.
وهذا يفرض التوافق أولاً على الأهداف والأدوات بشكل مرحلي، على أن يتحمل جميع الفاعلين المسؤولية عن تبعات ما يتم التوافق عليه، مع العلم أن أهمية هذا التوافق يجب أن تدفع الجميع لتقديم تنازلات لتحقيقه؛ فعلى صعيد الأهداف يمكن التوافق مرحلياً على تحقيق أهداف لا يمكن الاختلاف عليها، مثل: مقاومة التهويد والاستيطان في الضفة والقدس، ومنع جيش الاحتلال من ممارسة عمليات الاعتقال والدم والاغتيال في مدن وبلدات الضفة؛ فضلاً عن التصدي للحركات الإرهابية اليهودية التي تعيث فساداً وخراباً في طول الضفة الغربية وعرضها.
وفيما يتعلق بأدوات المقاومة؛ يمكن التوافق مرحلياً على المقاومة الشعبية ذات الأسنان كأداة في الإستراتيجية الشاملة، على أن يخضع قرار استخدام أدوات الفعل العسكري الخشن، وضمن ذلك الصواريخ، إلى قرار القيادة الموحدة التي يتوجب أن تشرف على تنفيذ هذه الإستراتيجية.
مقاومة شعبية ذات أسنان
ومن المهم التأكيد أن الإستراتيجية الشاملة يجب ألا تعتمد على فعل الفصائل فقط، بل كل الحركات والفعاليات الجماهيرية والأطر الشعبية والنقابية الحقيقية؛ وهذا يمثل مسوغاً إضافياً للتوافق على فكرة المقاومة الشعبية «ذات الأسنان»، التي تتشبث بها الكثير من هذه المكونات.
ويمكن استثمار الفلسطينيين في الساحات الأخرى في مجالات مقاومة تناسب ظروفهم السياسية، سيما على صُعد الدعم المادي والإغاثي والإعلامي وغيرها من المجالات.
وعندما نتحدث عن مقاومة شعبية ذات أسنان، فإننا نقصد مقاومة قادرة على التصدي لممارسات الاحتلال، وتشمل إغلاق الطرق التي يسلكها جيش الاحتلال ومستوطنوه، وإفشال مخططات المستوطنين للسيطرة على الأراضي الفلسطينية وبناء مستوطنات عليها، فضلاً عن تجنيد الجماهير لمنع قوات الاحتلال من اقتحام المدن والبلدات ومخيمات اللاجئين لتنفيذ عمليات اعتقال.
من الواضح أن السلطة الفلسطينية لن تكتفي بألا تكون طرفاً في مثل هذه الإستراتيجية؛ بل إنها ستعمل على إحباطها بكل قوة، ومن هنا يتوجب عزل السلطة وتعريتها عبر العمل على إقناع حركة «فتح» بأن تكون جزءاً من هذه الإستراتيجية.
من العلم أن القيادات المتنفذة داخل حركة «فتح» ستنحو نحو موقف السلطة، وهذا يعزز التحرك لدى قيادات «فتح»، التي لا تحوز السلطة تأثيراً كبيراً عليها من أجل بناء موقف وطني موحد، وإذا لم يتم العثور على قيادات فتحاوية وازنة مستعدة للانضمام إلى هذه الإستراتيجية، فيتوجب أيضاً تعرية موقف «فتح» أمام الجمهور الفلسطيني.
مجدداً، يجب التأكيد أن إطلاق صواريخ من غزة دون ضمان اشتعال ساحة الضفة واستنفاد الطاقة في الساحات الأخرى، يلعب أحياناً لصالح الاحتلال وسلطة عباس ونظم الحكم العربية الوظيفية؛ فـ«إسرائيل» تستغل ذلك في تبرير ضرب مقدرات حيوية جداً للمقاومة، فضلاً عن أن بروز معضلة إعادة الإعمار واشتداد الحصار يعزز مكانة النظم العربية التي تحتكر دور الوساطة بين المقاومة والصهاينة، لدى واشنطن من خلال ممارسة دور الوسيط، في حين تعطي الحروب في كثير من الأحيان لعباس الفرصة لاستخدام «فيتو» ضد مشاريع إعادة الإعمار.