د. عبدالمنعم فؤاد، قامة علمية كبيرة داخل الأزهر الشريف، وأحد القيادات المؤثرة تحت قبة المشيخة والجامع الأزهر؛ فهو أستاذ العقيدة والفلسفة، والعميد السابق لكلية العلوم الإسلامية للوافدين بجامعة الأزهر، والرئيس السابق لأكاديمية الأزهر العالمية، والمشرف العام حالياً على جميع أروقة الجامع الأزهر العلمية والقرآنية، وعضو هيئة تحرير مجلة «الأزهر الشريف»، والمتحدث الرسمي للجنة العليا للمصالحات بالأزهر.
اختار أن يكون حواره مع «المجتمع» تحت عنوان «الإنارة وليس الإثارة»، وتوثيق شهادته والمعلومات الحقيقية عن الأزهر أمام الجميع، خاصة شباب العالم الإسلامي والعربي ومصر؛ فجاء الحوار شاملاً وصريحاً، ولا يخلو من الرسائل القوية دفاعاً عن ثوابت الإسلام ورسالة الأزهر، وكشف فيه عن موقف شيخ الأزهر من المشاغبين عليه، مؤكداً أن مستقبل الأزهر الشريف مرتبط بمستقبل الإسلام وفق إرادة الله عز وجل.
بداية، نرحب بفضيلتكم، ونتساءل: كيف ترون الهجوم على الأزهر الشريف في الفترات السابقة؟
– في البدء لكم ولمجلة «المجتمع» التحية، ونرى أن أي هجوم على الأزهر أصله جهل بما يدور في المشيخة والجامع والجامعة من جهود كبيرة، وعدم التحقق من الافتراءات التي تثار من هنا وهناك، ولذلك نقول بوضوح: لو دخل من يهاجمنا من خارج أسوار الأزهر إلى داخل سور الأزهر لرأى الجهد المبذول داخلياً وعالمياً لنصرة الاعتدال وبيان منهج الإسلام.
لدى الأزهر أروقة علمية وقرآنية في كل مكان بمصر، وهناك لجنة عليا للمصالحات تعمل على إنهاء الخصومات الثأرية الدموية في مصر، وهو عمل ليس بسهل، وهي لجان تعمل بمتابعة مباشرة من فضيلة الإمام الأكبر، بالتعاون مع وزارة الداخلية.
ولدينا كذلك المرصد العالمي لمكافحة التطرف الذي يتابع الأفكار المتطرفة ويرصدها ويرد عليها هي والشبهات التي تثار حول الإسلام، والمركز العالمي للفتوى وله دوره المؤثر عبر لجانه في الرد بكافة اللغات على طالبي الفتوى من شتى أنحاء العالم.
ولدينا كذلك أكاديمية الأزهر الشريف التي تقوم بتدريب عالي المستوى على طرق الحوار والمناظرة وكيفية تفكيك الفكر المتطرف، كما أن هناك مجمع البحوث الإسلامية الذي يرسل بعثاته إلى دول العالم ليظهروا حقيقة الإسلام وشريعته.
ولعل أبلغ رد على المهاجمين يكون في نشاط الجامع الأزهر خلال شهر رمضان الماضي من حيث الدروس العلمية واللقاءات التي تدار من الصباح إلى المساء، التي كان يتم فيها توعية النساء والرجال والشباب عن طريق حوار مفتوح حول مختلف القضايا بجانب إحياء صلاة التراويح، وإفطار 4 آلاف طالب من كافة أنحاء العالم الإسلامي والذين يجلسون حول مائدة واحدة يومياً عقب أذان المغرب كأنهم هيئة الأمم الإسلامية، وذلك تحت إشراف فضيلة الإمام الأكبر ووكيل الأزهر د. محمد الضويني.
وهذا كله يتعلق بالشؤون الداخلية لمصر فقط، وهي جهود ليست بقليلة، وهي تكشف عن بواعث من يهاجم الأزهر الذي يحظى بإمام أكبر لا يألو جهداً من أجل الدفاع عن الإسلام وهيئات متنوعة تسعى للمصالحة والوفاق، لكن للأسف هناك من يزعم أن الأزهر هو الذي يصدر إرهاباً داخلياً وخارجياً، ولو وقعت أي مشكلة يحاول أن ينسبها إلى الأزهر، ويضع عليها مصطلح الإرهاب.
ولو كان الأزهر يصدّر إرهاباً داخلياً أو خارجياً كما يزعمون لرأينا أن طلاب العلم الذين جاؤوا من شتى أنحاء العالم موضع اتهام في العالم، وكانوا سبباً في تفجر العالم كله، ولكن الجميع يعلم أن الأزهر منبر الوسطية، وأن هوية الأزهر العلمية معروفة، والجامع الأزهر لم يخرج إرهابيين أو متطرفين، وإنما خرج علماء ورواد نهضة في مصر والعالم، ولكن ما يحزن هؤلاء حقاً هو ما يرونه اليوم من أن الجامع صار شعلة من النشاط، حتى رأينا أن شيخ العمود يعود بكرسيه تحت أعمدة الأزهر وفي أروقته، وبات لدينا 60 مجلس علمي في أروقته يومياً.
وأضف إلى ذلك، إقبال المصريين على إدخال أبنائهم إلى المعاهد الأزهرية، وهو ما كان واضحاً في العام الماضي، وأظهر ثقة الناس في الأزهر، رغم ذلك الهجوم الذي جاء إلينا من قلة من بني جلدتنا ووطننا.
إذن، كيف ترون المساس المتكرر بفضيلة الإمام الأكبر من أفراد محسوبين على المجموعات العلمانية كما يصرحون بأنفسهم؟
– في البدء يجب أن يستقر في الأذهان أن الدولة تقدر الأزهر وإمامه الأكبر وعلماءه بل وطلابه وتعلم دوره التنويري، وكيف أنه له أيدٍ دبلوماسية رائقة في الحفاظ على الهوية الوطنية والإسلامية، وهو قوة ناعمة معروفة لمصر بل وللعالم الإسلامي، ولكن هؤلاء لا يعبرون إلا عن مصالحهم ومصالح من يجندهم، ويكشفون عن حجمهم العلمي والثقافي وفقرهم الفكري، وهم -بلا شك- فئة ليست بالكثيرة، ومعروف علمياً أن الشاذ لا يقاس عليه.
والمصريون -من غير شك- يثقون في الأزهر وعلمائه، وأقرب مثال على ذلك ما كان في الآونة الأخيرة من إعلان لفتح أروقة قرآنية للأزهر بتوجيهات فضيلة الإمام الأكبر في جميع أنحاء الجمهورية، وكانت مدة الإعلان 15 يوماً فقط، والمفاجأة التي أذهلت هؤلاء، وجعلتهم يعضون على أصابعهم من الغيظ؛ أن المصريين قدموا لأبنائهم في الأروقة في هذه المدة اليسيرة بكثافة منقطعة النظير، حتى رأينا ما يقرب من 600 ألف طالب يطلبون الالتحاق بهذه الأروقة التي تعلّم كتاب الله تبارك وتعالى، ومثل هؤلاء وأكثر منهم يقفون على الباب في انتظار إعلان آخر، وهذا يعني أن المصريين يترجمون حبهم عملياً للأزهر الشريف ورسالته التي يعمل بها.
وتعالوا ننظر لمن تخرج في الأزهر، وبالواقع والسجلات، سنجد علماء وأدباء ورواد نهضة وقادة دول، ولعلك تذكر وقت أن ذهب الإمام د. أحمد الطيب إلى إندونيسيا والتقى به المسؤولون هناك، أتدري كم وزيراً كان يجلس أمامه من خريجي الأزهر؟ لقد جلس أمامه 17 وزيراً تخرجوا في جامعة الأزهر، وعاشوا بين جدرانها، ومثل هذا يقال في دول مثل العراق وماليزيا وباكستان وأمريكا وفرنسا وغيرها من البلدان الأخرى التي ترسل لنا أبناءها ليرتقوا علمياً على يد علماء الأزهر.
ومن مظاهر اهتمام الأزهر بالطلاب الوافدين أنه أنشأ كلية تسمى “كلية العلوم الإسلامية للوافدين” لا يدخلها إلا الوافدون الذين لا ينطقون العربية من شتى أنحاء العالم، وعندما شرفت بعمادة هذه الكلية، كنا حريصين كل الحرص على تربية هؤلاء تربية إسلامية تقوم على سلامة المنهج، ويسر العقيدة، وسماحة الشريعة، حتى تخرج فيها عقول كبيرة تربت على المنهج الإسلامي المعتدل، الذي يحمله الأزهر، وهذا ما نصدره للمجتمع الدولي.
دعونا ننتقل خارجياً، فاللافت أن حضور الأزهر قوي في القضية الفلسطينية في عهد د. الطيب، فما تعليقكم؟
– القضية الفلسطينية هي قضية العالم الإسلامي كله، والأزهر الشريف يقود هذه القضية من غير شك، وشيخ الأزهر تبنى مبكراً دعم المسجد الأقصى وتذكير المسلمين بحقوق الفلسطينيين، وعقد الأزهر مؤتمره المعروف عن القدس بحضور 83 دولة، ودق جرس الإنذار في وجه كل من يمس القدس مسرى النبي وثالث الحرمين، بل إن قضية القدس والتعريف بها ومكانة هذا المسجد في قلوب المسلمين صارت مادة دراسية في المعاهد الأزهرية والجامعة، حتى صارت قضية القدس قضية ذات أهمية بل محور اهتمام أساسي لدى ملايين الطلاب المصريين والوافدين في جامعة الأزهر ومعاهده الدينية.
ولكن العجيب والمؤسف أن نرى من يخرج من بني جلدتنا ويدعي الثقافة والتنوير، بل يقال له المفكر الكبير، وهو يزعم أن المسجد الأقصى ليس هذا هو المسجد الأقصى الذي ذكره القرآن الكريم، في آياته الكريمة وأسري إليه بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان منه المعراج إلى السماوات العلا، ويزعم أن “الأقصى” في مكان آخر غير فلسطين، في مسجد قريب من بلاد الطائف وغيرها!
بل هناك من ينفى المعراج أصلاً، وهذه -بلا شك- من المضحكات، وهؤلاء هم الذين يحاربون الأزهر الشريف ويهاجمونه ليل نهار؛ لتبنيه هذه القضية وتذكير المسلمين بها، رغم أن الحقائق واضحة لدى كل مسلم في سورتي “الإسراء” و”النجم”، والسُّنة المطهرة، ويراها كما يرى الشمس في رابعة النهار، وهؤلاء هدفهم معروف؛ فهم يخدمون الأجندة الصهيونية.
ولي سؤال لهم: أولاً: إذا كان المعراج لم يقع للرسول كما يزعم من يزعم ذلك، وهو مسلم كما نعرف؛ فمتى فرضت الصلاة؟ وكيف فرضت؟ وما وقت فرضها؟ أليس هذا كله في ليلة المعراج؟ والقرآن الكريم تحدث عن صعود النبي وعروجه حتى وصل إلى سدرة المنتهى وجنة المأوى؛ فأين هما على الأرض؟ وهل لهؤلاء جواب أم لا؟
ومعلوم أنهم في هذه لا ينطقون، ويبقى السؤال الثاني وهو الذي يحتاج إلى تحقيق: من جنَّد هؤلاء ليقولوا هذه الأكاذيب؟ أترك الجواب للقارئ الكريم.
بالنسبة لأزمة «الإسلاموفوبيا»، كيف ترى دور الأزهر في تقويضها؟
– «الإسلاموفوبيا» ما هي إلا إلصاق التهم بالإسلام، ونشر كراهيته والابتعاد عنه، والدعوة لذلك بين الجميع، وهذا ليس وليد الساعة، لكن له بذور قديمة عتيقة؛ فكانت هذه الكراهية للإسلام منذ أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً، وقد أصّل لذلك أبو جهل؛ فقد كان أول من ألصق الاتهامات بالإسلام، وأول من مارس مفهوم «الإسلاموفوبيا»، وكان معه كبار رجال الكفر في مكة ومن بينهم الوليد بن المغيرة، وعلى نهجهم سار مسيلمة الكذاب وأمثاله، ولهؤلاء نسخ طبق الأصل موجودة حتى يومنا هذا؛ فتلك هي جذور «الإسلاموفوبيا» منذ القدم.
واليوم يردد كبار الغلاة من المستشرقين والملحدين في أوروبا وغيرها افتراءاتهم على الإسلام لينتقموا منه بعد صدمتهم من إقبال الناس عليه من كل فج عميق، رغم أن المسلمين في مرحلة ضعف كما نشهد، ولا يمتلكون قوة عظمى أو أسلحة نووية أو غواصات بحرية، لكنهم يمتلكون عقيدة واضحة وشريعة سمحة وأخلاقاً، علمهم إياها منهج رب العالمين ومبادئ إنسانية تجذب الناس جذباً.
وليت هؤلاء الملحدين والذين معهم تنبهوا إلى ما قاله الكاتب والأديب العالمي برنارد شو، عندما يتحدث عن الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وصف سيدنا محمداً بأنه الوحيد القادر على حل مشكلات العالم، وهو يتناول فنجاناً من القهوة!
ولذا، نسأل هؤلاء ونتحداهم أن يثبتوا عكس ما يقولون: لو كان الإسلام دموياً كما يقولون فليقولوا لنا كيف دخل الإسلام إلى قلوب أهل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وهم من أكبر دول العالم وأكثر من 300 مليون مسلم بالهند؟ وهل فتحت هذه البلدان بحد السيف أم بالصدق والأمانة والسماحة التي حملها تجار المسلمين؟
بل أقول لهؤلاء المستشرقين والملحدين: هل قرأتم ما كتبه بعض المستشرقين كما جاء في كتاب “قصة الحضارة” للمؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت”، وكتاب “الدعوة إلى الإسلام” لمؤلفه توماس وولكر آرنولد وأمثالهما، حيث شهد هؤلاء بسماحة الإسلام مع الآخرين، وأنه ليس بدين عنف أو إرهاب كما يزعم الزاعمون.
اجتماعياً، الأزهر أعلن إستراتيجية طويلة الأجل لمقاومة تفكيك الأسر، كيف ترون فرص نجاحها في ظل ارتفاع نسب الطلاق؟
– لجان الوفاق الأسري بحمد الله تعمل يومياً وتتحرك إلى المحافظات، ويحدث على يديها توفيق كبير، وتحرز تقدماً ملحوظاً بفضل الله تعالى، ولها يد في أن يعود الوئام والوفاق إلى آلاف الأسر بعدما كادت تتفرق، والجهود مستمرة حتى تعود الأسر مستقرة والأزهر يضع ذلك على عاتقه ويسعى لمعالجته جيداً.
في الختام، في ظل الاحتفاء بمرور أكثر من 1082 عاماً على الأزهر، هل نستطيع أن نحدد إلى أن يذهب الأزهر ومستقبله؟
– الأزهر يذهب إلى الطريق السليم، ولن يحيد أبداً، ويعرف أنه يحمل رسالة سامية باقية وهي رسالة الإسلام، ولهذا فهو باق ببقاء هذه الرسالة، ومحفوظ بإذن الله بحفظ هذه الرسالة ما دامت النيات خالصة لله تعالى، وإن كان قد أصيب في وقت سابق بصداع خفيف، فقد ذهب الصداع الآن إلى غير رجعة، وهو يمضي الآن على بصيرة إلى تحقيق أهدافه العليا في الداخل والخارج، وعلى رأسها توعية المسلمين وشبابهم في كل مكان وإبعادهم عن الأفكار الدخيلة التي لا يعرفها الدين ولا الشرع، والله هو المستعان وعليه التكلان.