قد تسمع في الساحة الإسلامية بعض الخطابات التي تحث على القناعة والرضا بالمقسوم، وتصل رسالة خاطئة عن قصد أو غير قصد بالركون إلى حالة لا ترضي الله أبداً من الضعف والهوان والذلة والقلة، وتؤدي مثل هذه الخطابات إلى قتل الطموح بل ربما تعتبره اعتراضاً على قضاء الله تعالى وقدره، ولفك هذا الالتباس بين الدعوة للقناعة ومتى تكون، وبين الحث على العمل الصالح الذي يرضي الله وينفع الناس ويعمر الأرض كانت هذه السطور.
يسعى الإسلام إلى تأهيل الإنسان ليكون خليفة في الأرض وساكناً في الجنة، وفي إطار هذا السعي يأتي تهذيبه بالأخلاق الحسنة.
ومن بين الصفات التي يسعى الإسلام إلى تطهير الإنسان منها الكسل والجشع، فإن الكسل لا يليق بمسلم يسمع نبيه صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (صحيح البخاري).
والقعود عن نيل المعالي كذلك لا يليق بمسلم أخلد إلى الأرض واتبع هواه، والتخاذل كذلك لا يليق بمسلم، ولعل الكسل والقعود عن نيل المعالي والتخاذل صفات مرتبط بعضها ببعض، إذ الخلق السيئ يدعو بعضه بعضاً، والجامع بين هذه الصفات الذميمة هي نفس يائسة ترى المذلة نجاة من كثير من المآزق، ربما رأت تجارب لم تكتمل ولم تصل إلى الغايات التي وضعتها لنفسها فظنت أن الفشل قدر مكتوب لا انفكاك منه.
يأتي الإسلام بأخلاقه وقيمه لكي يرفع من شأن الإنسان ومن همته ومن تطلعاته الدينية والدنيوية.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا» (المعجم الكبير للطبراني)، ولا شك أن المعالي تحتاج إلى جهد لن يقوم به كسلان، لذلك اعتبر الإسلام الكسل شراً ينبغي الاستعاذة منه، ولا يزال الكسل بالإنسان حتى يحرمه لذة الوقوف بين يدي الله تعالى ويجر عليه العذاب الأليم، في ليلة الإسراء والمعراج أتى النبي صلى الله عليه وسلم على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئاً، فقال: “يا جبريل، من هؤلاء؟”، قال: “هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة” (دلائل النبوة للبيهقي).
والذي ينظر إلى معالي الأمور شخص عزيز يرى المذلة كفراً، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وعلاقة المسلم بربه تعطيه القوة والتحصين من مزالق الشعور بالهوان والوضاعة، فإن ربنا سبحانه وتعالى الذي نعبده له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وهو سبحانه القوي العزيز، وإذا كان أهل الأرض يشعرون بالتفوق على من حولهم لأنهم في حماية شخصية قوية نافذة، فما بالنا بمن بيده الكون كله وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون! إن حسن الصلة بالله تعالى واستشعار هذه العلاقة يعطي الإنسان القوة على مواجهة الصعاب.
وانسداد الأفق في نظر الإنسان قد يؤلمه ويضايقه لكنها مرحلة من عمر المدافعة بين الحق والباطل تأتي وتذهب ومما يهون من هذه المرارة قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110)، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5، 6).
بمثل هذه المعالجات الإيمانية يتحرر الإنسان من قيود العجز وينطلق إلى رحاب السعي لتحقيق مراد الله تعالى من خلق الإنسان {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).
لكنه وهو يسعى في رحاب هذا الكون يستخرج خيراته ويستمتع بها يضع نصب عينيه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، وقوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم: 42)، لذلك، فلا ينبغي أبداً أن تحملنا زينة الحياة الدنيا على الجشع الذي ينسى الإنسان معه نفسه وربه ويتحول إلى وحش مسعور لا يتورع عن إلحاق الأذى بأقرب الناس إليه، ولا يمنعه شيء عن محارم الله وحقوق الناس إلا العجز، وحتى إن عجز عن أخذ شيء بالقوة حاول أخذه بالحيلة والدهاء.
يسعى الإسلام إلى تهذيب هذا الخلق الذميم، فيخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الدنيا عند خالقها: «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ فِي الْخَيْرِ مَا أَعْطَى مِنْهَا الْكَافِرَ شَيْئًا» (الزهد والرقائق لابن المبارك)، فعلى أي جزء من جناح البعوضة يتقاتل الناس ويسفك بعضهم دم بعض ويمكرون مكر الليل والنهار لكي يأخذوا شيئاً ربما يحصلوا عليه ولا يستطيعون أن يستمتعوا به؟! وكم رأينا من أصحاب الممتلكات من لا يتمكنون من زيارتها حتى بسبب ضيق الوقت وكثرة المشاغل، وإن تمكنوا فزيارة خاطفة لا تساوي لحظة يسألون فيها أمام الله من أين لك هذا؟
في هذا الإطار نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا مُتَعَلِّمَ خَيْرٍ، أَوْ مُعَلِّمَهُ» (مصنف ابن أبي شيبة)، الملعون في الدنيا هذه التقاتل عليها الذي يغيب معه التنافس الشريف ورعاية الأخلاق وينسى فيه المتنافسون؛ وقفوهم إنهم مسؤولون.
إن الإسلام في كتابه الكريم يحث المسلم على استخراج الخيرات واستمطار البركات؛ {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم: 33)، وهذا التسخير يفهم منه أن المسلم من حقه أن ينتفع بهذه الخيرات وفق ما شرع الله تعالى له؛ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32)، وقد نبهنا الحق سبحانه وتعالى على عاقبة الجشع الذي يأخذ الإنسان فيه ما ليس له ويحرم الآخرين حقوقهم حين قص علينا ربنا سبحانه وتعالى في سورة “القلم” قصة أصحاب الجنة الذين تواعدوا على حرمان الفقراء من أنصبتهم التي أعطاها الله تعالى لهم؛ فكان جزاؤهم أن احترقت الحديقة بأسرها وذهب المال كله ليكونا عبرة لكل طامع فيما ليس له.
ودلتنا السُّنة كذلك على ما يمنحه الله تعالى لأصحاب النفوس السمحة الذين يأخذون نصيبهم من رزق الله ولا يطمعون في نصيب غيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: “بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ -لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ- فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ” (صحيح مسلم).
إن الإسلام وهو يحذر في القرآن الكريم من الدنيا؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5) يعرفنا بطبيعة الدنيا وطبيعة ضعاف البشر الذين تحملهم نفوسهم على الجشع والطمع.
لكنه وهو يهذب النفوس من الكسل والجشع يحثنا على أن يكون لنا مكان تحت شمس الغنى والقوة والعافية: “نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ” (مسند أحمد)، ويجعل من الطموح في نيل مناصب الخير في الدنيا والآخرة عبادة يؤجر عليها المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ” (التوحيد لابن خزيمة)، ومن أدعية الصالحين واجعلني للمتقين إماماً، ومن دعاء سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص).
فإذا حاز المسلم الدرجات العلا في الدنيا والآخرة أقر بفضل الله تعالى عليه، وعمل في هذه النعم بما يرضي الله تعالى؛ {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (الحج: 41).
إن الدعوة للقناعة تأتي بعد أن يبذل الإنسان جهده ويسعى سعيه في طلب معالي الأمور، فإن أصابها فلله الحمد والفضل، وإن لم يقدر الله تعالى له ما يتمنى رضي بالقسمة الإلهية، وقيّم هذه التجربة وحاول تكرار المحاولة مستفيداً من أخطائه إن وجدت ولم يتحسر على ما فاته مما كان يتمنى ولم يحسد الآخرين على ما نالوه من فضل الله تعالى، ولم يفكر أبداً في هدم من وصلوا للنجاح، بل يساعدهم عسى الله تعالى أن يفتح له أبواب الخير واعتقد اعتقاداً يريح قلبه ونفسه في صدق قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).
أما أن يقنع المسلم بالدون فهذا ما لا يليق بمن كتب الله تعالى لهم العزة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.