قد تكون التجربة العراقية بعد الغزو الأمريكي للعراق ثرية في البؤس بما تساعدنا على اختصار الزمن وتجاوز تلك الأفكار السياسية الميتة التي أنتجت لنا كل هذا الخراب في العراق وحولته من الدول المتقدمة دولة الرفاه وعاصمة العلم والقراءة إلى عاصمة الطائفية والحروب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، ليصبح العراق من الدول الأكثر فشلاً في العالم، ويحتل رأس القائمة في الجهل والمرض وانعدام الأمن والهجرة واللجوء.
يمكن أن يتم إلقاء كل اللوم على قوات الاحتلال الأمريكي وتحميلها كل تلك الخطايا، لكن من الظلم لأهل العراق ولهذه التجربة الثرية بالبؤس أن يتم إلقاء كل ذلك الخراب على المحتل الأمريكي وحده، وإن كان هو صاحب الخطوة الأولى في كل ذلك الخراب، إلا أن ذلك ما كان ليقع لولا وجود منظومة من الأفكار الميتة يغص بها الفضاء السياسي التي سيطرت على الشعب العراقي والنخب التي تسلمت زمام الأمور بعد سقوط النظام السابق وأنتجت لهم هذا الواقع البائس.
حالة البؤس العراقية جاءت نتيجة طبيعية لرواج مجموعة من الأفكار السياسية الميتة التي أنتجت هذه الحال القائمة، وأهم ملامح هذه المنظومة الفكرية:
– إبطال احتكار الدولة للعنف: إن من أخص خصائص الدولة الحديثة أنها تحتكر العنف المنظم المنصوص عليه في القانون، الأصل ألا يُمارس العنف المقنن إلا بيد الدولة وبنص القانون، العنف الذي يحمي أمن المجتمعات وحياة الأمم من الاعتداء على النظام العام وحياة الناس وأموالها وضرورات معاشها، إلا أنه في الدولة العراقية ونتيجة للأفكار التي تم بثها عبر رجال ومرجعيات الطوائف أصبحت مراكز ممارسة العنف باسم المصلحة العامة متوزعة في أكثر من يد، وجميعها خارج إطار الدولة والقانون، فكانت الحرب الأهلية والخراب الذي عاث في كل شيء، وتم الاعتداء على أقدس الحقوق وهو حق الإنسان في الحياة.
– إبطال احتكار الدولة للسلاح: من أهم معالم الدولة الحديثة أن السلاح والقوة يجب أن يكون محتكراً بيد الدولة، إلا أنه في الدولة العراقية ونتيجة للشحن الطائفي تهمش دور سلاح الدولة وجيش الدولة وقوة الدولة لصالح قوة وسلاح ومليشيا القبيلة والطائفة الدينية، فأصبح لكل طائفة جيش، ولكل مرجعية سلاح، ولكل قبيلة قوة؛ فأصبحت الدولة العراقية دولة تشبه التجمعات البدائية التي كان يحتمي بها الإنسان في قبيلته أو طائفته قبل قيام الدولة الحديثة.
– إبطال الديمقراطية: الديمقراطية تقوم على فكرة تمكين الشعب من أن يختار أفضل الكفاءات التي تدير له المال العام وشؤونه، وعماد الشعب في هذا الاختيار البحث عن البرنامج والكفاءة، إلا أن الديمقراطية العراقية تم إبطال فلسفتها وهدفها لتحويلها إلى مشروع لتقاسم السلطة وفقاً للانتماء الطائفي والعرقي، فأصبح رئيس الدولة كردياً، ورئيس الحكومة شيعياً، ورئيس البرلمان سُنياً، وهذه الوصفة في تقسيم الدولة وإبطال الديمقراطية تم تجريبها على مدار 100 عام في لبنان من زمن الرئيس بشارة الخوري، ورئيس الحكومة رياض الصلح، هذه الوصفة أوصلت الدولة اللبنانية إلى الدولة الفاشلة التي نحن عليها الآن.
الديمقراطية ليست الصندوق فحسب، فنتائج الصندوق هي آخر مظهر من مظاهر الديمقراطية، الديمقراطية دستور وعقد اجتماعي سياسي يقوم على مبدأ المواطنة والمساواة، فلا تفريق على أساس ديني أو طائفي أو لون أو عرق أو جنس بين أبناء الوطن الواحد.
كما أن الديمقراطية تعني الانتخابات المبكرة وقت الاستعصاء السياسي، وتعني الاستقالة وقت الفشل، لكن في العراق أهملت كل عناصر الديمقراطية وتم التمسك فقط بمخرجات الصندوق الذي أُفسد بالطائفية.
– الولاء الخارجي: حالة الولاء الخارجي تمثل الصفة الأساسية للنخب العراقية، هذه الحالة هي ثمرة منظومة فكرية تزدري الدولة الوطنية وتعتبرها ثمرة من ثمار المستعمر، هذه المنظومة الفكرية لا تؤمن بالدولة الوطنية ولا بالوحدة الجغرافية ولا بالمواطنة ولا بالدولة القُطْرية المدنية الحديثة، هذه النخب والمنظومة الفكرية لديهم ولاء واحد هو الولاء للطائفة أو العرق، هذه المنظومة الفكرية جعلت الساسة العراقيين يهملون مصالح الدولة التي يديرونها ويتآمرون عليها لصالح دولة أخرى شريكة لهم في الطائفة والدين، أو الولاء لمجموعة عرقية تمتد في دولة أخرى، هذه المنظومة الفكرية جعلت من العراق ومصالحه ومصالح شعبه مهراً رخيصاً يقدمه ساستها لإثبات ولاءاتهم الطائفية للخارج.
المخيف في التجربة العراقية أن المنظومة الفكرية التي أنتجت كل هذا الخراب في العراق موجودة في كثير من البلدان العربية، وفي حالة حدوث انفلات في السلطة في أي دولة عربية وسيطرة النخب التي تمتلك هذه المنظومة الفكرية المحملة بكل هذه الأفكار الميتة سيكون لدينا ذات الممارسات والسلوك وذات النتائج التي حدثت في العراق.
اليوم قد يكون من أولى الأولويات لدى أصحاب الرأي التركيز على إصلاح المنظومة الفكرية للنخب السياسية، بضرورة الإيمان بأن ممارسة العنف المقنن يجب أن يبقى بيد الدولة، وأنه لا سلاح إلا سلاح الدولة، وأن الديمقراطية حتى تعمل لا بد أن يتجنبها العسكر ورجال الدين، وأن الإيمان بالدولة القُطْرية الوطنية المدنية الحديثة هو بداية الانطلاق نحو البناء والعمل المثمر، وأن الولاء للخارج أخطر جريمة يرتكبها الساسة، اليوم نحن بحاجة إلى إصلاح النخب في ذات الوقت الذي نطالب فيه بإصلاح الأنظمة القائمة.