التعليم ركن من أركان المجتمعات المتحضرة، وقد اهتمت الكويت بالعملية التعليمية منذ وقت طويل، وهذا مقال كتبه عبدالله النوري، يرحمه الله، عن عبدالملك الصالح، يرحمه الله، وقد نشرته “المجتمع” بالعدد (31) بتاريخ 13 شعبان 1390هـ/ 13 أكتوبر 1970م.
رجل من بلدي..
المرحوم عبدالملك الصالح (1891 – 1946م) الرحالة والمعلم
هو المرحوم الأستاذ عبدالملك بن الشيخ صالح بن حمد بن إبراهيم المبيض، ولد في الزبير سنة 1209هـ الموافق سنة 1891م، وأبوه الشيخ صالح بن حمد عالم الزبير الشرعي وعلمها وقاضيها ومدرس بنيها.
جاء إلى الزبير وهو يافع وتعلم فيها وتزوج وأنجب وحكم مدة توليه القضاء بالعدل، لم يُذكر عنه أنه حابى أو حاد عن حدود الحق، يقصده الناس حتى من غير بلده للسؤال عن معضلة أو اختلاف على حكم الشريعة الغراء.
مات الشيخ صالح وقد بلغ عبدالملك الخامسة من عمره ولم يخلف من الأولاد سواه.
رعته أمه وتفرغت لتربيته وجاهدت في سبيله أقسى جهاد، علمته القراءة والكتابة وكانت ممن يقرأن ويكتبن والقارئات الكاتبات في النساء يومئذ نوادر.
وبعد مرور عام على وفاة المرحوم أبي عبدالملك جلست في بيتها لتعلم البنات قراءة القرآن لتعتاش هي وابنها، لكن الإقبال على التعليم عند البنات كان قليلاً.
وكان يسكن بومباي الثري العربي الشيخ قاسم الإبراهيم، وكان من أشهر تجار اللؤلؤ والجواهر ومحله مقصد أبناء الجزيرة العربية والعراق، وربما قام بوساطات بيع وشراء بين العرب من تجار العالمين الشرقي والغربي.
الأم أستاذة في الهند
وكتب الشيخ قاسم الإبراهيم إلى بعض أصدقائه في البصرة والزبير يستقدم امرأة مسلمة تحسن القراءة والكتابة لتقوم بتعليم بنات الجالية العربية في مومباي كتاب الله حفظاً على لغتهن أن ينسينها، واختير له من القريتين البصرة والزبير أم عبدالملك، واشترطت هذه الأم شروطها وكانت تنحصر كلها في مصلحة ابنها عبدالملك.
اشترطت أن يرافقها ابنها وأن يتعلم في مدارس الهند ما يزيد على تعليمه الذي يتعلمه من أمه، وأن تكون النفقة على عبدالملك داخلة في النفقة عليها، ومأواه مع مأواها، وقبلت الشروط وسافرت الأم برعاية الله يرافقها ابنها الوحيد عبدالملك، وهناك قامت الأم بواجبها خير قيام، ورأى فيها من استقدمها أكرم امرأة وأعفها وأغناها نفساً “والقناعة كنز لا يفنى”، وكرمت المرأة من جميع من عرفها، وقابلت هذا الإكرام بالإحسان وأخلاق كريمة وإتقان في العمل وإخلاص في أداء الواجب.
عبدالملك يتعلم في الهند
وتعلم عبدالملك في مدارس الهند الحساب فأتقنه، ومن اللغة الإنجليزية ما يكفيه لقضاء شؤونه نطقاً وكتابة وترجمة.
وتكلم بلغات من لغات الهند غير اللغة الأردية التي كان يتقنها كأحد أبنائها نطقاً وكتابة.
وعادت الأم زائرة بابنها إلى مسقط رأسه بعد أن جاوز الثالثة عشرة من عمره في فصل الربيع؛ ليتعرف على أرحامه وذوي قرابته، ثم عادت إلى الهند مدة أربع سنوات أخرى، عادت بعدها إلى الزبير وقد كبر عبدالملك وتخطى السابعة عشرة من عمره، وظلت في الزبير تعلم والابن يتعلم، وتردد كثيراً على شيوخ العلم الموجودين يومئذ ومنهم الشيخ محمد العوجان، والشيخ عبدالله بن حمود، والشيخ بن ذايل الذين فتحوا صدورهم وبيوتهم لكل طالب علم يحب أن يتعلم وينعم.
وتعلم عبدالملك منهم الكثير من فقه الإمام أحمد بن حنبل، وقرأ الأجرومية ومتممتها وحفظ من أشعار العرب وأدبهم الكثير، وكان قد شب ورأى أن أصبح عالة على أمه وقد بلغ الحادية والعشرين من عمره، فيجب عليه أن يعمل لتستريح أمه فقد كفاها سعياً في سبيل لقمة العيش.
يجب أن يسعى في مناكب الأرض ليأكل من رزق الله حلالاً طيباً، وفي الكويت يومئذ عمل يدر بالخير على طالبيه، إنه “الغوص” والغوص من أشرف الأعمال وربما كان الطريق إلى الثروة، فإن لم تكن ففيه الكفاف، ولأهل الكويت سمعة طيبة في معاملة البحارة الذين يرغبون في الاكتساب من طريق الغوص.
وجاء عبدالملك إلى الكويت سنة 1335هـ الموافق 1916م، والحرب العالمية الأولى يومئذ قائمة وليس ثمة بين البلاد العربية حواجز ولا حدود تباعد بينها ولا مخافر أو جوازات تقطع السفر من بلد إلى بلد.
وغاص مع الغواصين وكسب، وفي يوم من أيام سنة 1336هـ اجتمع بالشيخ يوسف بن عيسى في لقاء غير مقصود تكرر هذا اللقاء عن طريق عمل، وعرف الشيخ يوسف من يكون هذا الشاب، والشيخ يوسف كان يومئذ مديراً للمدرسة المباركية، فاختاره لأن يكون مدرساً فيها، وكان، وفي أواخر سنة 1337هـ، اتفق مع الشيخ عبدالعزيز الرشيد الذي كان يزامله في التعليم على افتتاح مدرسة في المحل المعروف بديوان العامر؛ لأن المدرسة المباركية ضاقت بطلابها.
إنشاء مدرسة الأحمدية
وافتتحا المدرسة في سنة 1338هـ وأقبل الناس عليها إقبالاً عظيماً، وفي سنة 1340هـ فتحت المدرسة الأحمدية أبوابها وكان رئيس مجلس الإشراف عليها الشيخ يوسف بن عيسى الذي اختار لإدارتها عبدالملك، وظل عبدالملك مديراً للمدرسة الأحمدية حتى تأسست دائرة المعارف في سنة 1936م.
وقد أجمع مجلس المعارف الذي كان يرأسه الشيخ عبدالله الجابر الصباح على اختيار عبدالملك الصالح أميناً لأعمال المعارف كلها، سرها وماليتها ومخازنها ومحاضر جلسات مجلسها، وبقي في عمله هذا ثلاث سنوات، لكن عبدالملك المدرس لم ترتح نفسه من عمله هذا، فكان يتمنى أن يعود إلى الصف ليقف مدرساً يغذي عقول أبنائه التلاميذ.
أريد أن أعمل معلماً
وفي يوم من أيام سنة 1940م، وقد تأسست المدرسة القبلية وفتحت أبوابها لتلاميذها يدخل عبدالملك على رئيس المعارف الشيخ عبدالله الجابر يطلب منه رسمياً أن يقيله من أمانة المعارف ويعيده مدرساً في القبلية، فقد اشتاق إلى التعليم وكان التعليم جزءاً لا يتجزأ من نفسه.
واستجاب مجلس المعارف لطلب عبدالملك وعاد إلى سلك التعليم مديراً للمدرسة القبلية، ولكنه ليس كالمديرين، فقد كان مديراً ومعلماً.
وفي صباح يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 1365هـ الموافق 19 فبراير 1946م وبعد صلاة الفجر نعى الناعي عبدالملك، كان جالساً بين أصحابه وزواره في بيته بعد صلاة العشاء، وقد صلاها معهم كعادته في مسجد الملا صالح، وإذا به يشكو حرارة جوفه وألماً في بطنه وبعد ساعة من شكواه وقبل أن يصل الطبيب فاضت روحه إلى باريها مأسوفاً عليه من كل من عرفه، وعارفوه كثيرون، مدعواً له من كل من أحسن إليه من تلاميذه الذين لا يحصون، وفيما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس نقل إلى مقره الأخير، رحمة الله عليه.