الناس يخلطون بين الطِيبة والسذاجة، والطيبة شأنها شأن معظم الفضائل تقع وسطا بين حدين متطرفين؛ فالطيبة وسط بين حدَّي السذاجة والخبث، كما الشجاعة وسط بين حدي الجُبن والتهور.
وهناك طريقان لفهم الحياة؛ إما فهمها بواقعها الفعلي والعملي المليء بالصراعات والمتناقضات بين الخير والشر، وإما فهمها باعتبار ما ينبغي أن تكون عليه.
مشكلة الطيبين أنهم يفهمون الحياة، ويتعاملون معها باعتبار ما ينبغي أن تكون عليه؛ فالحياة في نظرهم دار محبة وسلام وحب ووئام، والناس كلهم طيبون إلى أن يثبت العكس.
وهذا الفهم للحياة يعرض الطيبين للوقوع فريسة في فِخاخ الأشرار، ويرى عموم الناس أن الطيبين غالبا ما يخسرون كثيرا من تصورهم الحالِم عن الحياة.
حول هذا الموضوع دار حوار مع صديقي الطيب، وقد أصبح كلانا على أعتاب الدخول في العقد السادس من العمر، فقال لي صديقي:
منذ طفولتي وأنا (متهم) بطيبة القلب، وما زلت أذكر من طفولتي الباكرة توجيه هذه (التهمة) من الأهل والجيران، وحتى من بعض أقراني في الطفولة، وظلت هذه التهمة ملازمة لي طوال حياتي.
كانت ملامح وجهي البريء، ومشاعري الحنونة تجاه الآخرين، وسلوكي الطيب معهم، تغري البعض منهم لمحاولة استغلالي، وكانت أمي والمقربون مني يخشون على مستقبلي من الانسياق وراء مشاعري الطيبة تجاه الآخرين.
كبرتُ وواجهتُ الحياة وشققتُ طريقي للعمل والزواج ولم يتغير من سمات طيبتي شيء، لا في ملامح وجهي ولا طيبة قلبي ولا جميل سلوكي، بل نَمَت تلك الصفات مع تقدمي في العمر.
ومع التقدم في العمر وتعدد المسئوليات، اتسعت دائرة (الاتهام) بالطِيبَة، أمي تتهمني بالطيبة الزائدة مع من يسيء لي من أقاربنا، وزوجتي تتهمني بأن طيبتي الزائدة مع أبنائي ستفسدهم، وبعض الموظفين في مكتبي الهندسي الذي أديره يتهمونني بالطيبة الزائدة في التعامل مع الموظفين والعملاء مما يسبب لي خسائر مادية.
وبعد أن قاربتُ على الستين من عمري، واستوت سفينة العمر على جودي الحكمة والتجربة، وبعد أن بدأت نتائج التجارب في الظهور، اكتشفتُ أنني ربحت كل شيء بطيبتي.
ربحت محبة أهلي وأصدقائي، وربحت استقامة ونجاح وفلاح وبِر أبنائي الستة، وربحت نجاحي في مهنتي وإدارة أعمالي، وبركة رزقي.
لم أخسر شيئا من طيبتي سوى بعض الخِدَع التي يقع فيها معظم الناس، وقلما ينجو منها أحد.
وأملي أن تسوقني طيبتي إلى الجائزة الكبرى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة النحل: 32).