«اشتراط الولي في الزواج» هذه من الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام، وقالوا: إنها تنافي حرية المرأة في اختيار من ترضاه زوجاً لها بحرية تامة، وكثيراً ما يفرض عليها الولي من يرضاه هو، ويختاره لها زوجاً وهذا ينافي أبسط حقوق المرأة.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولاً: حُكمُ الوَليِّ في النكاح
لا يصح النكاح بدون ولي للمرأة، وهو مذهب الجمهور، حيث يرى المالكية(1)، والشافعية(2)، أن الولي ركن من أركان النكاح، ويرى الحنابلةُ(3) أنه من شروط صحة النكاح، وبه قال كثير من السلف، وحُكي عن الصحابة عدم الخلاف في ذلك.
قال ابن المنذر: عن الشعبي أن عمر وعلياً وابن مسعود وشريحاً كانوا لا يجيزون النكاح إلا بولي، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز، وجابر بن زيد، وقتادة، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، والشافعي رحمه الله، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والقاسم بن سلام.. والأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله ثبت عنه خلاف ما قلنا(4).
وذهب الحنفية إلى أنه ليس لوليها حق إجبارها، ولها أن تزوج نفسها، فإن زوجت نفسها بغير كفء، أو بدون مهر المثل، فلوليها حق طلب الفسخ ما لم تحمل(5).
وقد استدل جمهور العلماء على رأيهم بقوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) (البقرة: 232)، ووَجهُ الدَّلالةِ (تَعْضُلُوهُنَّ) أي: تمنَعوهنَّ، وهذا يدل على أنها لا تتزوج إلا بولي، وإلا لكان العضل وعدمه سواء، وقوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) (البقرة: 221)، وقوله تعالى: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) (النساء: 25)، وقوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (النور: 32)، ووجهُ الدَّلالةِ هو: أن الخطاب في هذه الآيات إلى الأولياء الذكور، ولو كان إلى النساء لذكرهن، ولو لم يعتبر وجود الولي من الرجال لما كان لتوجيه الخطاب إليه فائدة، ولما كان لِعَضْلِه معنى، ثم إنه لو كان لها أن تُزوِّجَ نفسها لم تحتج إلى وليها(6).
كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ»(7)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ نَكَحَت بغيرِ إذنِ وَلِيِّها فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فإنْ دخَلَ بها فلها المَهرُ بما استحَلَّ مِن فَرجِها، فإن اشتَجَروا فالسُّلطانُ وَليُّ مَن لا وليَّ له»(8).
ثانياً: اشتراط الولي في النكاح لا يقيد حرية المرأة
إن ما زعمه هؤلاء من تَحَكُم الولي بمُوليته في النكاح، ليس من الإسلام في شيء، بل هو من تقاليد بعض المجتمعات الإسلامية، توارثوها عن آبائهم، وأعراف تعارفوا عليها، وبمرور الزمن، وتعاقب الأجيال وبسبب الجهل بالدين، أخذت تلك الأعراف والتقاليد طابع الاحترام والتقديس، وأخيراً أُلصقت بالإسلام، والإسلام منها براء.
إن الإسلام أعطى للمرأة البالغة العاقلة: بكراً، أو ثيباً، كامل الحرية في قبول أو رفض من تقدم لخطبتها، ولم يجعل لأبيها، وهو أقرب الناس إليها، ولا لولي غيره أن يجبرها على من لا ترضاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»(9).
بل وصل الأمر إلى رد الزواج، وإبطال العقد، إذا جرى بدون رضاها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح خنساء بنت خدام، حين زوجها أبوها وهي ثيب من شخص لا تريده، حيث رد نكاحه(10).
وخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة بكراً، زوجها أبوها من ابن أخيه، وهي غير راضية، خيرها بالإمضاء أو الرد؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءَتْ فتاةٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبي زوَّجَني ابن أخيه يرفع بي خَسيسَتَه، فجعل الأمر إليها، قالت: فإني قد أجَزْتُ ما صنع أبي، ولكنْ أردْتُ أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء(11).
ولم يجعل الإسلام للولي حقاً في تزويج موليته، بغير إذنها، إلا الأب بالنسبة لابنته الصغيرة غير البالغة، فقد أجمع أهل العلم من المسلمين على أن للأب -فقط– تزويجها بغير إذنها، لما روت عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين»(12)، على أن يكون الزوج كفئاً؛ لأن الله تعالى أقام الأب مقامها ناظراً لها فيما فيه الحظ لنفسها، فلا يجوز له أن يفعل ما لا حظ لها فيه، ولأنه إذا حرم عليه التصرف في مالها بما لا حظ لها فيه، ففي نفسها أولى.
ومن مقاصد هذا التشريع الحكيم صيانة المرأة عن أن تباشر بنفسها ما يُشْعِر بوقاحتها، ورعونتها، وميلها إلى الرجال، مما ينافي حال أرباب الصيانة والمروءة.
كما أن المرأة لقلة تجربتها في المجتمع، وعدم معرفتها شئون الرجال وخفايا أمورهم، غير مأمونة حين تستبد بالأمر لسرعة انخداعها، وسهولة اغترارها بالمظاهر البراقة دون تَرَوٍ وتفكير في العواقب، وقد اشترط إذن الولي مراعاة لمصالحها لأنـه أبـعـد نـظـراً، وأوسع خبرة، وأسلم تقديراً، وحكمه موضوعي لا دخل فيه للعاطفة أو الهوى، بل يبنيه على اختيار من يكون أدوم نكاحاً، وأحسن عشرة.
ونسأل هؤلاء: كيف لا يكون لوليها سلطان في زواجها وهو الذي سيكون –شاء أو أبى– المرجع في حالة الاختلاف، وفي حالة فشل الزواج يبوء هو بآثار هذا الفشل، ويجني ثمرات خطأ فَتَاته التي تمردت عليه، وانفردت بتزويج نفسها؟!
إن الهدف من رقابة الولي على اختيار الزوج ليس فقط تسهيل الزواج، وإنما أيضاً تأمينه وتوفير عوامل الاستقرار له، ورعاية مصالح الفتاة التي ائتمنه الله عليها، وإن قصر نظرها عن إدراكها، ومن هنا كان مبنى الولاية على حسن النظر، والشفقة، وذلك معتبر بمظنته، وهي القرابة، فأقربهم منها أشفقهم عليها، وهذا أغلب ما يكون في العَصَبة. وأيضاً يجب على ولى المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها منه، وأن يراعي خصال الزوج، فلا يزوجها ممن ساء خَلقُه أو خُلُقه، أو ضعف دينه، أو قصر عن القيام بحقها، فإن النكاح يشبه الرق، والاحتياط في حقها أهم، لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا رضيت رجلاً، وكان كفؤاً لها، وجب على وليها –كالأخ ثم العم– أن يزوجها به، فإن عضلها أو امتنع عن تزويجها زوجها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤاً باتفاق الأئمة، وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض، لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك، أو يُخجلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤاً لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية، والظلم والعدوان، وهو ممـا حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه.
وهكذا يتضح لنا أن الولي في النكاح في التشريع الإسلامي ليس له منع المرأة من أن تختار لنفسها من ترضاه زوجاً لها إذا كان كفئاً، وليس للولي إجبارها على من يرضاه هو، ولا ترضاه هي، والإسلام في هذا الباب قد أعطى المرأة من الحقوق والتكريم ما لم تعطه امرأة من قبل في الديانات السماوية، والنظم الاجتماعية الأخرى(13).
__________________________________
(1) (مختصر خليل) – (ص 96) – (الشرح الكبير) للدردير (2/220).
(2) (روضة الطالبين) للنووي (7/50) – (تحفة المحتاج) لابن حجر الهيتمي (7/217).
(3) (الإقناع) للحجاوي (3/171) – (كشاف القناع) للبهوتي (5/48).
(4) الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف – المؤلف: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر – 8/265-268
(5) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) – المؤلف: محمد أمين بن عمر عابدين. 2/296
(6) (تفسير القرطبي) – (3/164) -(فتح الباري) لابن حجر (9/187).
(7) أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وأحمد (19518) وصحَّحه الإمام أحمد.
(8) أخرجه الترمذي وحسنه (1102) واللفظ له، والنسائي في (السنن الكبرى) (5394)، وابن ماجه (1879)، وأحمد (24205).
(9) صحيح البخاري – حديث رقم: 5136.
(10) صحيح البخاري – حديث رقم: 5138.
(11) أخرجه النسائي (3269)، وأحمد (25043) واللفظ له.
(12) أخرجه البخاري (5134)، ومسلم (1422).
(13) بتصرف من كتاب: شبهات حول المرأة المسلمة – المؤلف: علي بن نايف الشحود – 1/296:291.