كان الفراعنة متدينين، يؤمنون بألوهية ذواتهم، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، وأنشؤوا معالم دين كامل يدين الشعب به، بمنظومة دنيوية، ورؤية أخروية، وطقوس ومعابد وصلوات وترانيم وكهنة وسدنة وقوانين ونظم وأعياد واحتفالات ومراسم ومقدسات.
ولم يكن هذا حال الفراعنة وحدهم، بل حال عُبَّاد الأصنام من كل عصر ومِصر، بمن فيهم كفار قريش؛ فقد كان لهم آلهة ومعابد وصلوات وقرابين وكهنة، وكان «أبو جهل» يعتبر نفسه هو وأمثاله من كبار كفار قريش هم الحراس الأمناء على دين الآباء، فقد كانوا يواجهون دين التوحيد بديانة مضادة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك حين واجههم بقول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
فرعون وأبو جهل وأشباههما عبر عمق الزمان واتساع الأرض، هم ورثة قوم سيدنا إبراهيم الذين صنعوا أصناماً يعبدونها من دون الله، فواجه سيدنا إبراهيم جهلهم وافتراءهم، ووبخهم قائلاً: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}، وما زالت البشرية تسير في الطريق ذاته.
مِحنة الإنسان ومنحته -في آنٍ معاً- أنه يحيا في عالَمين مختلفين متباعدين، لكنهما متلازمان: عالَم الغيب وعالَم الشهادة، عالَم الروح وعالَم الجسد، عالَم الضمير والقِيَم، وعالَم الغرائز والشهوات.
لكل إنسان حياة جوانية تتصل بعالم الغيب، تلك الحياة تخلق في كل إنسان -أيًّا كان دينه ومعتقده، أو حتى حين يتصور أنه لا ديني- معالم للخير والشر والحلال والحرام، وداخل كل إنسان حيوان وملاك يتصارعان، صراع بين الغريزة والشهوة وبين الروح والضمير، وبحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: «الإنسان حيوان لا يريد أن يكون حيواناً».
مشكلة الإنسان مع الإيمان والدين أنه جزء من كيانه الروحي الذي لا ينفصل عن جسده، ومهما حاول إنكاره فهو موجود؛ لأن انتفاء وجوده يعني انتفاء وجود الإنسان كإنسان متفرد عن عالم الحيوان؛ فالإنسان حتى لو أنكر وجود الدين الذي يتحكم في شهواته وغرائزه، لا يمكن أن يحيا بدون محرمات وضوابط أخلاقية، ترتقي به فوق غرائزه الحيوانية.
مشكلة الإنسان أن روحه تشده إلى السماء، وتبحث عن الله وتحنُّ إلى منزلها الأول في الجنة، لكنها في طريق البحث تنحرف في دروب الغرائز والشهوات، وتريد ديناً لكن وفق هواها؛ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}.
وتنحرف عن المسار الذي حدده الرسل، وتميل إلى عالَم الشهادة؛ فبمجرد عبور المؤمنين خلف سيدنا موسى وبمعجزة مشهودة، وجدوا أناساً يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.
وهذا بالضبط ما فعله السامري في غياب موسى، وما يفعله كل سامري في غياب الرسل؛ يحاولون إسقاط عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وتمثيل من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وهذا ما حدا بالسياق القرآني بإفراد هؤلاء الذين يحرفون الناس عن الدين الحق بتعبير لا نظير له: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}.
إن الإنسان الملحد المنكر للأديان يتعبد هو أيضاً بدين يضع له ضوابط قانونية وأخلاقية تحاول أن ترتقي بإنسانيته وتقاوم غرائزه الحيوانية، ويسميها شيوعية وليبرالية وغيرها من أسماء لأصنام سبقهم بها إنسان الغاب وإنسان الكهف وإنسان العصر الحجري، في مسيرة متلازمة بين الإنسان والإيمان.
إن أكبر خرافة وضلال يمكن أن يعيشه إنسان، هو أن ينكر وجود الله، وينكر وجود دين من الله؛ لأنه بذلك ينكر وجود ذاته الإنسانية المتفردة عن سائر المخلوقات؛ {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}.